دعيت يوم الثلاثاء الماضي مع مجموعة من الزملاء المحترمين إلى ندوة في المركز الثقافي العربي في أبو رمانة للإدلاء بدلوي فيما يخص «الحوار الوطني السوري والمستجدات السياسية»، وآمل أن تكون هذه الندوة فاتحة لسلسلة من الندوات تعقد لاحقاً تحت العنوان نفسه، ولكن بموضوعات فرعية يجري التعمق فيها أكثر، وهي طريقة لإعادة تحريك مياه راكدة لابد منها، بهدف العودة إلى ثقافة الحوار كأساس لحل المسائل الوطنية الكبرى، وهي الطريقة الأنجع والأسلم، والأفضل لبناء مستقبلنا.
الحقيقة أن أسئلة كثيرة طرحت في هذه الندوة، بعضها منطقي ومحق، وبعضها الآخر يقوم على أحكام مسبقة، وكلام جامد لم يتغير، ولم يتحرك للأمام، بالرغم مما شهدته سورية من المآسي والكوارث، ومما انكشف من أوراق الحرب عليها وأسرارها، وما لاحظته أن العديد من الأسئلة كانت غريبة ومتناقضة، ولا تنسجم مع الممارسات على أرض الواقع، ومنها مسألة ما يحدث في منطقة الجزيرة السورية، وممارسات ميليشيات «قسد» في تلك المنطقة، وارتباط ذلك بتفكيك دول المنطقة التي عملوا عليها تحت عنوان طائفي- مذهبي، ثم انتقلوا لاحقاً إلى العنوان الإثني، وقد قُدمت مداخلة تحدثت عن هذا الملف بلغة قديمة جامدة، متعصبة، متشبثة بأحادية واضحة، ليتساءل الصديق الذي داخل: متى تغيرون طريقة تفكيركم؟ ويقصد هنا: حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي يراه حزباً متعصباً قومياً، ولا يقبل الرأي الآخر أو التنوع، وبالطبع فإن مثل هذه المقاربة ظالمة، وغير موضوعية، ليس لأنها تنتقد حزب البعث، فحزب البعث ليس خارج النقد أبداً، وكنت قد كتبت عن ذلك في مقالي عبر «الوطن» السورية «فن صناعة الأعداء»، ولكن لأن فيها تضليلاً وإخفاء للحقائق، وابتعاداً عن الواقع، وهنا دعوني أُفصّل بعض النقاط التي أوصلتها للجمهور في أبو رمانة، وللصديق الذي قدّم مداخلة فيها مغالطات كبيرة:
1- كلما تناولنا ممارسات ميليشيات «قسد»، ينبري أحدهم ليأخذك إلى العنوان الإثني، ويقول لك: إنه لا يسمح لك أن تتناول الأكراد بكلمة! ويبدأ بالمزايدة عليك تحت هذا العنوان.
وهنا أود أن أوضح للمرة العاشرة أو أكثر أن استهداف ممارسات «قسد» لا علاقة له بالأخوة الكرد الذين هم جزء عزيز وأساسي ووطني من المجتمع السوري، ولا داعي لتكرار ذلك مرات عديدة، وأما الجانب الآخر فإن العمالة لا دين لها ولا مذهب ولا قومية، فهو عميل بغض النظر عن هذه الانتماءات، إذ هناك عملاء عرب وأكراد و… الخ، وبالتالي غير مسموح بهذا الخلط لأن فيه استحماراً للناس والرأي العام.
2- لا يمكن وصف إغلاق 2000 مدرسة في محافظة الحسكة إلا بأقسى العبارات وهو عمل مدان ومشبوه وعميل، لأن حرمان أطفالنا وأبنائنا من التعليم هو فعل خيانة وطنية بالمطلق، كما احتجاز الثروات الوطنية وسرقتها، وكما هي سرقة القمح، وحرمان السوريين من الخبز، وكذلك قطع الكهرباء والماء، أو تحويل المدارس إلى سجون ومراكز أمنية، وسجن كل من يعارض ممارسات «قسد» أو تهديدهم برزقهم، وحياتهم وأبنائهم. إن كل هذه الأعمال تخدم الأجندات الخارجية ولا علاقة لها بالمصلحة الوطنية، ولا تحل بالحوار لأن الممارسات وحدها تكشف الأهداف الحقيقية مهما حاولت بعض الأطراف التضليل والكذب.
3 – لقد مللنا من إعادة إنتاج الطروحات نفسها، وبالطريقة نفسها، وادعاء الانتماء الوطني، ففي سورية لا توجد مشكلة في اللغة والثقافة والفولكلور والعادات والتقاليد، فكل هذا جزء من تراث السوريين وإرثهم الثقافي، ويعتزون به ويشاركون في إحيائه، لكن المشكلة فيمن يريد استخدام عَلَمٍ خاص به، وخلق جيش خاص به، وشرطة خاصة، وعلاقات خارجية، وأجهزة أمن واستخبارات، ونظام سجون وقضاء، وتشريعات خاصة ثم يقول لك: إن كل هذا «إدارة ذاتية» يجب أن تعمم في سورية كلها! وإذا ناقشته يقول لك يجب أن تغيروا طريقة تفكيركم! وهنا أضرب لهم الأمثلة: هل يوجد أمن فرنسي لا مركزي؟ أو هل يوجد جيش فرنسي لا مركزي؟ أو جيش أميركي لا مركزي؟ والأمثلة كثيرة، وأما الجانب الآخر والمهم الذي نؤكد عليه أن اللامركزية الإدارية هي خط إستراتيجي تعمل عليه الدولة السورية، وليس هناك مجال للمساومة فيه، وهو خط يهدف لدمج المجتمع السوري كله في عمليات التنمية المحلية ويحتاج لجهود الجميع.
ما يطرحه هؤلاء هو بكل وضوح وصفة فدرلة وتقسيم وإضعاف للبلاد، ويكفي أن نعرف من يدعم هذا المخطط لنفهم إلى أين سيسير بنا؟
4- إن مشروع «كردستان الكبرى» هو مشروع مرسوم وواضح ومفضوح، ونجد خرائطه في محطة مسعود البارزاني التلفزيونية عندما تُقدم النشرة الجوية، فعلى من يضحك هؤلاء؟ وهو مشروع يهدف لخلق «إسرائيل الثانية» في القرن الحادي والعشرين لتقسيم أربع دول مركزية هي سورية، العراق، إيران، تركيا، تحت عنوان إثنى، وهنا أسأل: أليس غريباً أن قضية موت الشابة مهسا أميني في طهران استخدمت كذريعة لتحريك منظمة «بيجاك» الإيرانية التي تعادل «بي كا كا» في تركيا، و«قسد» في سورية، والعنوان واحد؟ ثم أليس غريباً أن يقتل قيادي من «بيجاك» الإيرانية في الجزيرة السورية؟ ما علاقته بما يجري في سورية، والقضايا الوطنية السورية؟
اللافت أكثر أن الجهات نفسها تدعم هذه التنظيمات باختلاف دولها، أي أميركا، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، والصهاينة و«معهد دراسات الشرق الأدنى في واشنطن» وهو معهد «الآيباك» أي معهد اللوبي الصهيوني الأميركي.
هنا نطرح حقائق وأسئلة، وليس اتهامات، فالسيدة إلهام أحمد زائر مواظب لهذا المعهد، وتتبادل الأفكار والأبحاث والمعلومات معهم.
5- كان هذا هو الموضوع الأبرز الذي أخذ حيزاً واسعاً من نقاشات هذه الندوة، ولكن طُرحت أيضاً تساؤلات بحاجة للمزيد من الإيضاح، ومنها:
* البعض قال: إن الدولة السورية ضعيفة مثلاً! والحقيقة أن الدولة السورية بعد 12 عاماً من حرب ضارية عليها أثبتت أنها دولة قوية، وليس كما يقال عادة من دون تدقيق إنها ضعيفة! فالدولة التي لم توقف دفع راتب موظف واحد، ليست دولة ضعيفة! والدولة القادرة على تعليم أكثر من أربعة ملايين تلميذ ليست دولة ضعيفة! والدولة التي ما زالت جامعاتها مفتوحة وتستوعب كل طلابها، ليست دولة ضعيفة!
ولكن: من الطبيعي بعد 12 عاماً من التدمير والحصار أن تضعف جوانب كثيرة ويحصل تراجع في الخدمات والأداء، وتنشأ تحديات نتيجة طول مدة الحرب، إضافة إلى ضيق مجال النشاط الاقتصادي، وفرص العمل، وسوء الأداء الإداري، وانتشار الفساد، هذا كله صحيح! لكن لولا بقاء الدولة والجيش لكنا جميعاً الآن في خبر كان! وهذه حقيقة موضوعية لابد من الإقرار بها دائماً.
*بدا واضحاً أن الهم الاقتصادي يطغى على أولويات السوريين، وهنا يمكن تسجيل ملاحظات كثيرة على أداء الحكومات المتعاقبة في الشأن الاقتصادي، وهو أداء تُطرح عليه أسئلة تعجب، واستفسارات كثيرة، وتعتبر أحد الملفات التي تحتاج للنقاش، والحوار المعمق.
فقبل أيام مثلاً تابعت خبراً للحكومة كانت تناقش فيه إستراتيجية التحول الرقمي في سورية، وهو أمر مهم وضروري وأساسي، ولكن كيف لنا أن نجري تحولاً رقمياً إذا كنت كمواطن سوري وقبل أيام من هذا الاجتماع قد دفعت ثمن جهاز الموبايل ما يعادل راتبي الشهري لأكثر من 32 شهراً من دون أن آكل أو أشرب؟ فهل يعقل أنني كحكومة أريد تطبيق تحول رقمي، ومواطني لا يستطيع شراء جهاز موبايل متطور لتحميل هذه التطبيقات الذكية التي يجب أن تسهل حياته! وهو أمر محير حول طريقة التفكير والعمل في هذا الملف؟
بالطبع كثيرة هي المسائل التي تحتاج لنقاش وحوار، والأولوية كما يبدو حالياً هي للاقتصاد، ليس لدينا فقط، بل في كل العالم، لكن من دون أن يعني ذلك أنه لا نقاش في أي محور آخر.
إن أهم درس مستخلص ونحن في ذكرى حرب تشرين التحريرية هو وحدة السوريين التي عشتها طفلاً صغيراً في المدرسة آنذاك، ولأن النجاح والتقدم لأي شعب أو دولة تواجه صعاباً وتحديات كالتي نواجهها، لا يمكن أن يتم إلا عندما ندرك أن روح حرب تشرين التي ظهرت لدينا في سبعينيات القرن الماضي يجب أن تشكل العمود الفقري للخلاص المستقبلي من خلال وحدتنا الوطنية، وأولئك الذين يطالبوننا بتغيير طريقة تفكيرنا، عليهم أن يبدؤوا بأنفسهم أولاً قبل أن يعظوا الآخرين وينظروا عليهم بالمثل والقيم، فالآية الكريمة تقول: «كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون»، افتحوا مدارس أبنائنا وأطفالنا في الحسكة كي ندرك أنكم تنتمون لهذا الوطن، والانتماء ليس خطابات، إنما ممارسة، والمواطنة ليست حقوقاً فقط، إنما واجبات أيضاً، فغيروا قبل أن تطالبوا الآخرين وتتهموهم بالجمود.