في وقت يبدي به أركان النظام التركي رغبتهم من الناحية الإعلامية والأمنية حتى اليوم، في التقارب مع سورية برعاية روسية وبدعم إيراني لأغراض انتخابية أو غيرها، تسارع الولايات المتحدة الأميركية لاحتواء هذا التطور في حال حصوله عبر إفراغ مضمونه الإيجابي على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية على غرار تقارب بعض الدول العربية مع سورية، أو عرقلة مسار المصالحة ومنعه للحفاظ على الوضع القائم وبما يضمن تأثير واشنطن على المسار السياسي ويخدم مصالحها ووجودها في الجغرافية السورية.
ومما يؤكد هذه السردية الاحتلالية وبغرض تعطيل الارتقاء بالعلاقة السورية- التركية، جهدت الولايات المتحدة الأميركية مؤخراً لخلط الأوراق على المستويين السياسي والعسكري، وتجلى ذلك في المواقف التصعيدية التالية:
أولاً- الضغوط التي مارستها الولايات المتحدة الأميركية لفرض إملاءاتها على المشاركين من الدول العربية خلال اجتماع ما يسمى «أصدقاء سورية» والذي شهدته مدينة جنيف السويسرية بداية أيلول الماضي، إذ تضمن أحد البنود الإملائية السبعة تحريض الدول العربية على عدم قبول عودة سورية لشغل مقعدها في الجامعة العربية ورفع قرار تجميد العضوية، وحثهم على التهديد بعدم الحضور أو تخفيض التمثيل في حال تمسك الجزائر بمقترحها المتضمن مشاركة سورية في القمة العربية المزمع انعقادها في تشرين الثاني المقبل.
وبالعودة لبيان الدبلوماسية السورية الذي عبر عنه وزير الخارجية فيصل المقداد عازياً عدم رغبة دمشق بالمشاركة في القمة العربية بالجزائر «حرصاً منها على المساهمة في توحيد الكلمة والصف العربي بمواجهة التحديات التي تفرضها الأوضاع الإقليمية والدولية»، يمكن التأكيد أن هذه الدول العربية أذعنت بشكل مطلق للإملاءات الأميركية المطالبة بالحيلولة دون عودة سورية للجامعة العربية بعد الجهود التي بذلتها روسيا خلال العامين السابقين تمهيداً لذلك، وهذه الإملاءات انعكست في التصريحات العدائية لكل من السعودية وقطر تجاه سورية خلال اجتماعات الدورة الـ77 للجمعية العامة للأمم المتحدة، وضبابية الموقف المصري.
ثانياً- الاجتماعات المكثفة التي خاضها المبعوث الأميركي نيكولاس غرانجر بداية أيلول الماضي في مناطق سيطرة ما يسمى «الإدارة الذاتية» مع مختلف القوى الكردية، سعياً لإعادة إحياء مسار الحوار الكردي- الكردي، بما في ذلك إفساح المجال لـ «المجلس الوطني الكردي» التابع لتركيا والمنخرط ضمن ما يسمى «الائتلاف» المعارض، للعب دور في المشهد السياسي داخل «الإدارة الذاتية» الكردية، بالاستعانة بما تقوم به حكومة إقليم كردستان العراق والدورين الفرنسي والسويدي، بالتزامن مع استخدام واشنطن لسياسة الترغيب والترهيب لميليشيات «قسد» وجناحها السياسي «مسد» لمنع تقاربها مع الحكومة السورية أو تعطيل مسار الحوار معها ولطمأنتها بعدم حصول أي عدوان تركي.
ثالثاً- حث واشنطن لما يسمى الائتلاف خلال اجتماع ما يسمى «أصدقاء سورية» لإرسال وفد كبير وناشط لحضور الدورة العادية للجمعية العامة للأمم المتحدة، واستغلال هذا الاستحقاق لتكثيف جهودهم ونشاطهم لإقناع الوفود الدبلوماسية بعدم إعادة علاقاتها مع سورية، واستغلال الصراع مع روسيا الذي تفرضه تطورات أوكرانيا للحصول على المزيد من الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري لهذه المعارضة.
رابعاً- السعي الأميركي لاستقطاب ما يسمى المعارضة الخارجية ولاسيما «الائتلاف»، ونقل مركز ثقلها من تركيا إلى أميركا لعدم التضحية بها من النظام التركي في حال التقارب مع دمشق، وهذا تجلى عبر استضافة واشنطن لمؤتمر ما سمي «الميثاق الوطني السوري» الذي ضم شخصيات معارضة بمن فيهم أعضاء «الائتلاف» أثناء انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومنح أعضاء «الائتلاف» حرية التنقل والحركة والنشاط في الأراضي الأميركية، بالتزامن مع حصول عدة اجتماعات ضمت مسؤولين عن وزارة الخارجية والدفاع وبعض قادة الاستخبارات الأميركية مع ممثلين عن «الائتلاف»، لبحث احتمال تشكيل جسم عسكري جديد في الشمال الغربي يمتلك المرونة في التعاون مع ميليشيات «قسد»، فضلاً عن طرح الخيارات التي من شأنها إنعاش المنطقة عبر استثمارات اقتصادية، وذلك لتخفيض التأثير التركي على المنطقة.
خامساً- تتمثل هذه النقطة على المستوى العسكري والأمني، حيث عملت الولايات المتحدة الأميركية وبالرغم من حركة الرفض التي أبداها عناصر ما يسمى «جيش المغاوير» والحراك والاحتجاجات التي شهدتها بعض مناطق مخيم الركبان، على إحداث تغيرات داخل «جيش المغاوير» وتغيير كبار قادته وفي مقدمتهم عزل مهند الطلاع الرافض لأي تعاون مع ميليشيات «قسد» وتعيين المدعو محمد القاسم قائداً جديداً لهذه الميليشيات عوضاً عنه، إذ يتمثل الهدف الأميركي من فرض هذه التغيرات التي طرأت على هيكلية هذا الفصيل بهذا التوقيت، هو إحداث تعاون عسكري مشترك ما بين «المغاوير» و«قسد»، وذلك لتوحيد جهود أدواتها الميدانية لتحقيق مصالحها السياسية. ولخدمة هذا التوجه العسكري والأمني عادت القيادة العسكرية الأميركية لتكرار نغمتها القديمة المتمثلة بالترويج لعودة مخاطر تنظيم داعش مجدداً بالتزامن مع أي تطور يمكن تصنيفه في إطار المصادفة تجلى في تصاعد عمليات داعش وفق ما أعلنته وكالة «النبأ» التابعة لهذا التنظيم، ويبدو أن الغرض الأميركي من ذلك يتمثل في استثمار تنظيم داعش وعناصره المحتجزين في سجون «قسد» وداخل مخيم الهول كألغام متحركة في حال تعرض الوجود الأميركي للخطر في سورية، أو لتبرير زيادة تقديمها للمساعدات العسكرية وغير العسكرية لقسد لقطع الطريق أمام الجهود الروسية الراعية للحوار بينها وبين السورية، بالتزامن مع إعادة تموضع قوات الاحتلال الأميركية في الشمال الشرقي من سورية وهذا برز مؤخراً عبر تأهيل قواعد كانت قد استخدمتها هذه القوات سابقاً وانسحبت منها.
على كل الأحوال الموقف الأميركي واضح فيما يخص مسار تحسن العلاقات السورية- التركية، وإن لم تبدِ أميركا أي تصريحات مباشرة على أي مستوى بهذا الخصوص، إلا أن الإجراءات والتكتيكات المتبعة على الصعيدين السياسي والعسكري، تؤكد أن واشنطن لن تسمح بأي تطور إيجابي يشهده الملف السوري لا يخدم مصالحها ويعزز من دور خصومها ولاسيما روسيا، لذلك هي تتجه نحو تفريغ السلوك التركي من مضمونه أو وضع العراقيل أمامه إن صدقت النيات التركية.