«قَسَم سيرياكوس».. حكاية سورية خالصة للمخرج الفرنسي أوليفييه بورجوا … رسالة محبة وسلام تؤكد أن شعبنا انتصر على الظلم والعدوان والإرهاب والجهل
| وائل العدس - تصوير طارق السعدوني
على أرض قلعة دمشق مساء أمس، وبحضور رسمي وثقافي وفني وشعبي كبير، قدّم المخرج الفرنسي أوليفييه بورجوا فيلمه الوثائقي الدرامي عن متحف حلب بعنوان: (The Oath of Cyriac/قَسَم سيرياكوس)، وهو حكاية سورية خالصة تم إنتاجها بالتعاون بين المديرية العامة للآثار والمتاحف في وزارة الثقافة والأمانة السورية للتنمية.
الفيلم الحاصل على 17 جائزة في كبرى المهرجانات العالمية مأخوذ عن قصة حقيقية لأبطال سوريين دافعوا عن هويتنا وذاكرتنا من التخريب والنسيان، يشبهون أبطال الحكايات الشعبية الذين نجحوا في تحقيق عهدهم لوطنهم وللإنسانية جمعاء.
ويتحدث الفيلم عن تكاتف مجموعة صغيرة من علماء الآثار والقائمين على المتحف، مع تصاعد وتيرة الحرب الإرهابية على مدينة حلب عام 2015، للحفاظ على المجموعات الأثرية التي وصل عددها لنحو 50 ألف قطعة أثرية، من مقتنيات متحف حلب الوطني، متحدين وابلاً من القذائف ونيران القناصة، ليرقدوا أياماً بلياليها على أرض المتحف، لإنجاز مهمتهم الإنسانية من دون كهرباء أو ماء، فعملوا بكل جهد وأمانة على إخفاء التماثيل الأثرية والمقتنيات الثمينة، للحفاظ عليها من يد الإرهابيين.
وساهم هؤلاء في إنقاذ محتويات المتحف ومقتنياته ونقلها إلى دمشق عندما كانت حلب تتعرض لقذائف الإرهاب بشكل يومي، وأيضاً في أعمال ترميم أقسام المتحف جراء ما طاله من تدمير.
متحف حلب وموظفوه والقائمون عليه كان مثالاً حياً لصمود السوريين بوجه أعتى وأشرس الحروب الإرهابية، خاصة أنه يمثل ذاكرة إنسانية وثقافية وقيمة أثرية وتراثية مهمة ليكون شاهداً على تطور الثقافات والحضارات السورية على مر العصور من آرامية وآشورية وكلدانية وفينيقية ليشكل أيقونة تذكرنا بالماضي الموغل في القدم، إضافة إلى أنه من الأهم على مستوى العالم لما يحتويه من لقى يعود بعضها إلى ما قبل الميلاد.
المتحف وبعد صموده الطويل وإغلاقه لسبع سنوات، عاد ليفتتح أبوابه في شهر تشرين الأول عام 2019 بعد تحرير مدينة حلب من دنس الإرهاب على يد الجيش العربي السوري، فشكلت إعادة افتتاحه رسالة للعالم بأن الشهباء تنفض غبار الإرهاب عنها وتعود لها الحياة مجدداً.
وجاء الفيلم ليجسد رسالة محبة وسلام تؤكد أن شعبنا انتصر على الظلم والعدوان والإرهاب والجهل.
المخرج الفرنسي أبدى سعادته لعرض الفيلم في دمشق، وقال: الفيلم وثائقي درامي، الأشخاص فيه حقيقيون وقد وعدتهم أن أنشر الفيلم في كل أنحاء العالم، وأظن أننا بدأنا بهذا وسنستمر به.
وقدّمت وزيرة الثقافة د. لبانة مشوح قبل عرض الفيلم دروعاً تكريمية للأبطال الذين حافظوا على مقتنيات المتحف وهم: مدير متحف حلب السابق محمد بشير شعباني، مدير عام الآثار والمتاحف نذير عوض، معاون مدير الآثار والمتاحف ومشرف الفيلم د. همام سعد، مساعد المخرج فرانك ماير، أمين متحف حلب أحمد عثمان، مدير آثار ومتاحف حلب خالد المصري السابق، ديسبينا بسلان أمين متحف حلب الكلاسيكي، الرائد طارق أبو علي مسؤول حماية القطع الأثرية، مدير مركز الباسل للبحث الأثري أحمد ديب، مساعد المصور لقمان رستم، مسؤولة أرشيف الفيلم لميس بقججي، وسامي الرفاعي في الدعم اللوجيستي.
الهوية الفكرية العقائدية
وتضيء فكرة الفيلم جوانب في عمق صون الهوية الثقافية والتاريخية للبلد في ظل حرب شُنّت أصلاً ضد هوية وتاريخ سورية.
ويحمل الفيلم في فكرته إسقاطات سياسية لجهة دور الدولة ومؤسساتها الرسمية والمدنية في حماية تاريخ هذا البلد؛ كما تحمل فكرته أيضاً بُعداً يطول الهوية الفكرية والعقائدية للشعب السوري مُمثلاُ بأبطال هذا الفيلم، الذين عملوا على حماية الآثار والقطع الموجودة في متحف حلب الوطني، ومنعوا ضياعها أو تدميرها أو سرقتها، وبالتالي فإن هذا الفيلم في غاية الأهمية في هذا الوقت، وكل وقت سواء للداخل السوري، وللجيل السوري وللمؤسسات السورية، وأيضاً للخارج.
جنود مجهولون
في كلمتها أمام الحضور، قالت وزيرة الثقافة: «صمدنا بفعل حكمة قيادتنا السياسية وبسالة جنودنا الأبطال وبفعل حرصنا وإيماننا وإخلاصنا لثقافتنا وهويتنا وتراثنا، هذا التراث الذي ورثناه عن آبائنا وأجدادنا ويحق لنا ومن واجبنا أن نصونه وأن نعطيه أجمل وأكثر تطوراً واستدامة للأجيال القادمة.
وأضافت: هناك جنود مجهولون في وزارة الثقافة يعملون بصمت وبظروف لا يمكن أن يتصورها بشر، أقسموا بحبهم لوطنهم ولتراثهم ولثقافتهم أن يحموا هذا التراث بكل ما أوتوا من قوة، أقسموا أن يبذلوا كل ما لديهم في كل الظروف، الكلمات وحدها لا تفيهم حقهم نحتاج إلى شيء أوسع من الكلمات وأفصح منها وأكثر تعبيراً شيء يلامس جوهر الإنسان وعواطفه.
وأكدت أن هذا الفيلم أوسع من الكلمات، فيلم حاز على جوائز كثيرة مهرجانات دولية وهذا دليل على تميزه وإبداعه، ولا بد أن ننحني أمام من صنعه، وهو فيلم مبدع لأنه زاوج بين الواقع والتجربتين الحسية والإنسانية وطرح أسئلة ثقافية كبيرة عن الحقيقة، حقيقة ما يقال وحقيقة ما جرى في متحف حلب بأن هناك أناس قارعوا الموت وصمدوا ونقلوا بعضاً من مقتنياته في ظروف لا يتصورها عقل.
وختمت: عندما تتهدم المتاحف ستكون خسارتنا كبيرة لكن بسواعد أبناء الوطن وكفاءاتهم وبدعم الدولة يعاد بناؤها، وذلك يأخذ وقتاً وجهداً ومالاً لكنه يعاد، أما مقتنيات المتاحف فخسارتها لا تقدر بثمن ولا يمكن تعويضها.
رسالة سوريّة
رشا برهوم من الأمانة السورية للتنمية أشارت إلى أن الحرب على سورية استهدفت الحجر والبشر وقصدت تدمير التراث والثقافة السورية التي عمرها آلاف السنين.
وأكدت أن المتاحف كانت جزءاً من هذا التراث المستهدف، ومتحف حلب لوحده يضم آثاراً تعود لآلاف وملايين السنين، وفي عامي 2014 و2015 كان على خط المواجهة مع المسلحين والإرهابيين، فكان الموظفون فيه كالجنود الحقيقيين فدافعوا عن الآثار وحافظوا عليها وقدّموا أرواحهم لكي يحافظوا عليها في أماكن آمنة.
وشددت على أن الشيء المميز في هذا الفيلم أن الشخص الذي صنع الفيلم مخرج فرنسي، ما يساعد في إيصال رسالة سوريّة حاولنا لسنوات إيصالها بشكل صحيح بأننا تعرضنا لإرهاب ودمار كبيرين.
وختمت بأنه وعندما يوثق شخص من خارج سورية هذه الحرب فهذا دليل على وجود أشخاص تحب سورية وآثارها.
الهوية السورية
مدير عام الآثار والمتاحف نذير عوض أوضح أن الفيلم تحدث عن تجربة السوريين والمؤسسات الحكومية والأمنية وحتى المجتمع المحلي في الدفاع عن تراثهم الثقافي الأثري خلال الحرب على سورية، وكيف استطاع هؤلاء حماية متاحفهم التي تعرض فيها الهوية السورية.
وأكد أن الفيلم توثيقي بامتياز، نجح في توثيق الحقيقة والتقى الأشخاص الحقيقيين وزار الأماكن الصحيحة، فكان فيلماً استثنائياً مهماً لأنه سلط الضوء على ما حدث من تعدٍ همجي غير حضاري على الآثار السورية.
الجنود المجهولون
النجمة سلاف فواخرجي قالت لـ«الوطن»: كان لي حظ بأن أكون متابعة للتحضيرات الأولى للفكرة والانطلاقة، فكان عندي فكرة عن الموضوع لكن عندما شاهدته اليوم استرجعت سنوات الحرب الصعبة بكل آلامها والتي من الصعب نسيانها، لكني في الوقت نفسه عندما شاهدت هؤلاء الأبطال والجنود المجهولين الذين حموا التراث والآثار وهذه الأرواح السورية التي لا تعوض يزيد فخرنا لكوننا سوريين وتجعلنا مؤمنين أكثر، مؤكدة أن هذا الفيلم يستحق التقدير.