ثقافة وفن

في ذكرى مولده الشريف استعادة أخلاقه … الرسول العربي حب وتسامح لصلاح الإنسان والأمة

| إسماعيل مروة

اليوم تمر ذكرى المولد النبوي الشريف، والعالم أجمع، والعالم الإسلامي في حالة من الفوضى العارمة، الفوضى القائمة على حساب الإنسان وكرامته وحياته، والرسول الذي رأى حياة، أي انسان، أكثر أهمية من دور العبادة، الرسول الذي أعلى قيمة الإنسان، الرسول الذي أطلق بأنه لا يؤمن أحدنا حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، تأتي ذكراه والوقت صعب، والإنسان، حتى من أبناء الجلدة الواحدة يقتل أخاه الإنسان ويجوّعه، ويعريه، ويحرمه!

في الرخاء، والشدة الأنبياء والرسل والمصلحون نستذكرهم دوماً في الرخاء والشدة، في الرخاء لنعلم أن تعاليمهم هي التي جعلت حياتنا أكثر سعادة، ورسولنا هو الذي جاء ليعزز القيم العالية التي ترقى بالمجتمع «وإنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، جاء صلى الله عليه وسلم ليتم الأخلاق، ليجعل الحياة والتعامل أكثر أخلاقية وسمواً ورقياً، ولولا ما جاء به الأنبياء والرسل والمصلحون ما كان للحياة أن تكون راقية ومهمة وسامية.. ونستذكرهم في الشدة، فحين يعم الكره نستذكرهم، وحين يعم الضعف نعود إليهم بالذاكرة لنستلهم منهم سبل الخلاص، وسواء وافق بعضهم على الاحتفال والاحتفاء أو رفضوا، وسواء كان هذا التاريخ المحدد هو نفسه أم فيه خلاف، فإن الاحتفال بمولده لا يعني الأهازيج، وإنما يعني الإحساس بالآخر، إطعام الجائع، إغاثة الملهوف، الحدب على اليتيم، أو السعي من أجل قوة الأمة، والعمل على أن تكون لها شخصيتها الخاصة والمستقلة والتي تتمتع بالقوة والكرامة.

الرمز والخصال

لو عدنا إلى المدائح النبوية من أول ما قيل فيه من الشاعر الصحابي حسان بن ثابت الأنصاري، وكعب بن زهير في قصيدته المخصوصة الأولى «بانت سعاد» إلى عبد الله بن رواحة وكعب بن مالك والنابغة الجعدي، وجميعهم رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وخاطبوه؟، وحظوا بشرف صحبته، وصولاً إلى البوصيري وابن جابر الأندلسي، وصولاً إلى أمير الشعراء أحمد شوقي الذي خصّه بعدد من عيون المدائح، فإننا سنجد أن هؤلاء ركزواعلى خصال الرسول صلى الله عليه وسلم، ابتداء من العفو والصفح، وصولاً إلى القوة وتكوين الأمة.

وحين نجد عدداً من الشعراء غير المسلمين تغنوا بالرسول وامتدحوه، فهم لم يفعلوا ذلك من باب المجاملة والمدح، وإنما قدموا رمز الأمة الذي تحتاجه الأمة في كل وقت وحين.

وهاهو الشاعر القروي رشيد سليم الخوري الشاعر المهجري العروبي الذي تغنى بالإسلام وقال: «هذا التراث يمت في معظمه إلى إسلامها» وتغنى بالشام، ينظر في عيد المولد إلى الأمة وحالها وضعفها، فيرسل رسالة يوجهها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والى الأمة والمسلمين ليحضهم على تمثل حياة الرسول واتباع نهجه.

الرمز والقروي

عيد البرية عيد المولد النبوي

في المشرقين له والمغربين دوي

عيد النبي بن عبد الله من طلعت

شمس الهداية من قرآنه العلوي

بدا من الفقر نوراً للورى وهدى

يا للتحدث عمّ الكون من بدوي

يا صاحب السيف لم تفلل مضاربه

اليوم يقطر ذلاً سيفك الدموي

يافاتح الأرض ميداناً لقوته

صارت بلادك ميداناً لكل قوي

يا حبذا عهد بغداد وأندلس

عهد بروحي أفدي عوده وذوي

من كان في ريبة من ضخم دولته

فليتلُ ما في تواريخ الشعوب روي

ياقوم هذا مسيحي يذكركم

لا ينهض الشرق إلا حبنا الأخوي

فإن ذكرتم رسول الله تكرمة

فبلغوه سلام الشاعر القروي

إنه الرمز العربي الذي يستنجد به القروي، وينافح عن صدقه ونهجه لعل الأمة تعود إلى مبادئه العظيمة، يهديه السلام، ويعلم أنه يسمعه ويرد سلامه، لكنه يذكر الجميع بأنه مسيحي، يذكرهم بأن الحب والأخوة هما السبيل للنهوض بالشرق والشرق كله بمسلميه ومسيحييه.

العفو والصفح وكعب بن زهير

تعد قصيدة الصحابي كعب بن زهير أشهر ما قيل موجهاً إلى الرسول عندما جاءه طالباً العفو والصفح عما ارتكب بحق الإسلام، ورسوله، وحين لم يتحمل أي واحد من الصحابة أن يتوسط له، جاءه إلى مجلسه وهو على يقين بأن النبي يحمل الحب والعفو عمن أساء إليه، وألقى بين يديه قصيدته التي وضع الرسول بعد سماعها العباءة على كعب ومنحه الأمان، ما يعطي صورة عن هذا النبي العظيم الذي يعفو في المقدرة ويحمل الحب لا القسوة، وغايته الإيمان والحب.

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول

متيم إثرها لم يُجزَ مكبول

أنبئت أن رسول الله أوعدني

والعفو عند رسول الله مأمول

كل ابن انثى وإن طالت سلامته

يوماً على آلة حدباء محمول

مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة الـ

قرآن فيها مواعيظ وتفصيل

لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم

أذنب ولو كثرت عني الأقاويل

إن الرسول لسيف يستضاء به

مهند من سيوف الله مسلول

العباءة الثانية البوصيري

جاء في ديوان البوصيري بأنه كان مريضاً عليلاً، فأنشأ قصيدته البردة، فكان سليماً معافى لساعته، ومهما كان الرأي في سبب إنشائها، فإن للبوصيري عدداً من القصائد في مدح الرسول، البردة أشهرها، وإن لم تكن أكثرها براعة، وربما اشتهرت لأن العلماء تناولوها، ولأن المنشدين تغنوا بها، ولأنها بهجة منهج البديعيات التي قيلت في مدحه صلى الله عليه وسلم في البحر والقافية، ولو قرأناها فإنها تعداد لأخلاقيات الرسول ولوذبه وبأخلاقه وأفضاله.

أمن تذكر جيران بذي سلم

مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم

أم هبت الريح من تلقاء كاظمة

وأومض البرق في الظلماء من إضم

فما لعينيك إن قلت اكففا همتا

وما لقلبك إن قلت استفق يهم

أيحسب الصب أن الحب منكتم

ما بين منسجم منه ومضطرم

لولا الهوى لم ترق دمعاً على طلل

ولا أرقت لذكر البان والعلم

نعم سرى طيف من أهوى فأرقني

والحب يعترض اللذات بالألم

يا لائمي في الهوى العذري معذرة

مني اليك ولو أنصفت لم تلم

بديعية ابن جابر الأندلسي

وابن جابر الأندلسي له قصائد كثيرة في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وهذه القصيدة أكثرها شهرة فقد أخذت البحر والميم المكسورة، وحوت علم البديع فدرسها الدارسون والذي يعنينا فيها أن معانيها السامية تضعنا في أجواء روحانية مختلفة ويكاد المرء ينسى ما فيها من صنعة وبديع، وهو يعيش مع الشاعر ورحلته إلى المدينة وساكنها.

بطيبة انزل ويممّ سيد الأمم

وانشر له المدح وانثر أطيب الكلم

وابذل دموعك واعذل كل مصطبر

والحق بمن سارو الخط ما على العلم

سنا بني أبي أن يضيعنا

سليل مجدٍ سليم العرض محترم

جميل خلق على حق جزيل ندى

هدى، وفاض ندى كفيه كالديم

وكم حبا وعلى المستضعفين حنا

وكم صفا وصفا جوداً لجبرهم

إقبال وكلام الروح

يعد محمد إقبال واحداً من أهم الشعراء، وله أشعار كثيرة في الإسلام والأخلاق، وهو واحد من مؤسسي الباكستان، وله شعر كثير نقله إلى العربية أساطين الأدب الحديث من عبد الوهاب عزام إلى عبد المعين الملوحي، وقد جمع أعماله الغوري، وصيغت أشعاره بالعربية فقدمت مثالاً عن الروح الإسلامية السامية التي جاء بها الرسول:

كلام الروح للأرواح يسري

وتدركه القلوب بلا عناء

هتفت به فطار بلا جناح

وشق أنينه صدر الفضاء

لقد فاضت دموع العشق مني

حديثاً كان علوي النداء

فباسم محمد شمس البرايا

أقيمت خيمة الفلك المنير

الوحي وكمال بطرس ناصر

كمال بطرس ناصر شاعر عروبي بعثي ثوري، شهيد استهدفه الصهاينة عام 1973، رأى ما يمثله الرسول للعرب والعروبة من عبقرية، ودين وقوة ويستذكره مع ساعات الوحي الأولى في غار حراء ليقدم صورة فريدة كل ما فيها يدل على الحب والشاعرية لا تكلف فيها ولا تصنع.

خطر الوحي ملهماً عبقرياً

بين جنبيه فاستفاق نبيا

وسرت رعشة النبوة فيه

تملأ الأرض والسماء دويا

هبطت سورة الحجى فتغني

يا ليالي وكبري يا ثريا

قيل للغار أي نطق جميل

ما عهدناه قبل ذاك شهيا

فدوت آية الكتاب حناناً

قد آتيناه منزلاً عربياً

أحمد شوقي وروائع المدح

أمير الشعراء أحمد شوقي، حياته بذخ ومال، ومع ذلك كان ملاذه وقدوته الرسول صلى الله عليه وسلم، فكتب عدداً من القصائد البليغة المؤثرة التي تمتلئ شاعرية وصورة، وهي أبعد ما تكون من النظم وغاياته، وغنت أم كلثوم هذه القصائد لجمالها وصورها، وأشهرها «نهج البردة» التي سار فيها على درب البوصيري لكنه تفوق فيها لأنه نحى الصنعة، والتفت إلى الصورة ومزايا الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى الواقع الإسلامي، ويعد شوقي أهم ما وحي الرسول في العصر الحديث، وربما امتد ليكون عبر العصور كلها، وذلك لفنيته العالية، وتعشقه لحب النبي، وانتفاء الشعر المرتبط بمرض أو ما شابه ذلك، وهذه مقاطع مختارة من ثلاث قصائد امتدح بها الرسول:

«1»

ولد الهدى فالكائنات ضياء

وفم الزمان تبسم وثناء

يا خير من جاء الوجود تحية

من مرسلين إلى الهوى بك جاؤوا

يا من له الأخلاق ما تهوى العلا

منها وما يتعشق الكبراء

لو لو تقم ديناً لقامت وحدها

ديناً تضيء بنوره الآناء

زانتك في الخلق العظيم شمائل

يُغرى بهن ويولع الكرماء

يا أيها الأمي حسبك رتبة

في العلم أن دانت لك العلماء

«2»

سلو قلبي غداة سلا وثابا

لعل على الجمال له عتابا

وأرسل عائلاً منكم يتيماً

دنا من ذي الجلال فكان قابا

نبي البرّ بيّنه سبيلا

وسنّ خلاله وهدى الشعابا

تجلى مولد الهادي وعمت

بشائره البوادي والقصابا

أبا الزهراء قد جاوزت قدري

بمدحك بيد أن لي انتسابا

مدحت المالكين فزدت قدراً

وحين مدحتك اقتدت السحابا

«3»

أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكة

والرسل في المسجد الأقصى على قدم

جبت السموات أو ما فوقهن بهم

على منوّرة درية اللجم

مشيئة الخالق الباري وصنعته

وقدرة الله فوق الشك والتهم

حتى بلغت سماء لا يطار لها

على جناح ولا يسعى على قدم

ليس كالأيام

يوم مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكرى الأنبياء والرسل ليست عادية، ولا تشبه الأيام، ففيها فرصة عظيمة لمراجعة الأمور والحياة، ومحاولة للتمثل والاقتداء، فكيف إن كانت الذكرى لنبي الرحمة والمرحمة؟ لنبي العمل والإيمان؟ لنبي الإخاء والمساواة؟ لنبي العمل والحضارة الإنسانية الشاملة؟.

السلام عليك أيها النبي الكريم في ذكراك، وأنت ترقب أمتك التي ضلّت عن هديك وحبك، ولم تأخذ بما تركته بينهم، وقلت: لن تضلوا أبداً..!

السلام عليك وعسى أن يعود أتباعك إلى مارسمته لهم من حب ورحمة وحياة واقعية وعلمية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن