ربما تشير المقارنة بين جيلين أو ثلاثة أجيال من قادة وجنرالات جيش الاحتلال، الذين ظهروا عام 1948 وفي عشرات السنين التي تلت، إلى التدهور الواضح والمستمر في قدرتهم هذا على تحقيق أهداف هذا الكيان، ففي أعقاب حرب حزيران عام 1967 واحتلال الأراضي العربية في سيناء والجولان والضفة الغربية وقطاع غزة، ظن قادة جيلين في إسرائيل أنهم ضمنوا بقاء كيانهم لعشرات السنين من دون أخطار ومقاومة فعالة، ففاجأتهم مصر وسورية وفصائل المقاومة الفلسطينية بحروب استنزاف في كل الأراضي التي احتلوها، وأجبرت رئيس أركان جيشهم حاييم بارليف في عام 1968، بعد سنة من عدوان حزيران 1967، على بناء خط دفاعي عسكري ضخم هو الأول من نوعه في الشرق الأوسط امتد على خط جبهة القناة وسيناء مع مصر، وتمكن الجيش المصري من تدميره في حرب تشرين عام 1973، وعلى الجبهة السورية لم تتوقف حرب الاستنزاف وتحرير جزء من الجولان في حرب تشرين التي شكلت أول هزيمة لاستخبارات إسرائيل وجيشها على جبهتين، واستمرت المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة باستنزاف جيش الاحتلال.
وفي هذه الأوقات يواجه الجنرال وزير الأمن الداخلي عومري بارليف من الجيل الإسرائيلي الثالث، وهو ابن الجنرال بارليف المهزوم في حرب تشرين 1973، مقاومة فلسطينية على امتداد فلسطين المحتلة تستنزف عسكرياً ومعنوياً قوات الأمن التي يقودها، وتتصاعد عملياتها التي بلغ فيها عدد إطلاق النيران المباشرة على قوات الأمن الإسرائيلية ما يزيد في الشهرين الماضيين على 500 عملية من هذا النوع على يد شبان الجيل الثالث لما بعد النكبة في الضفة الغربية وقطاع غزة.
هذه الحقيقة تناولها أحد كبار المختصين الإسرائيليين بالشؤون العسكرية والأمنية دورون ماتسا، في تحليل نشره في صحيفة «يديعوت أحرونوت» في الخامس من تشرين الأول الجاري بعنوان «إسرائيل تسير بأعين مغمضة أمام مفاجأة تشرين الأول لعام 2022»، وكشف فيه عن نوع من المقارنة بين الفشل الإسرائيلي عشية حرب تشرين 1973، حين عجزت الاستخبارات الإسرائيلية عن رصد ما أعدته مصر وسورية لمفاجئة جيش الاحتلال وشن حرب لم تتوقعها إسرائيل في ذلك اليوم من السادس من شهر تشرين الأول عام 1973، وقارن هذا الفشل بفشل المخابرات الإسرائيلية ووزارة الأمن الداخلي التي يرأسها في هذه الأوقات ابن بارليف وهو الجنرال عومري بارليف، في رصد وتوقع التصعيد الفلسطيني في الأراضي المحتلة، فقد أعلن بارليف الابن قبل شهرين أن بعض عمليات إطلاق النيران المباشرة من الشبان الفلسطينيين «مجرد فقاعات» وتنتهي، فتبين أنها تصاعدت وفرضت على جيش الاحتلال استدعاء قوات احتياط لمواجهتها، إضافة إلى ما فرضته من ثمن في الخسائر البشرية لقوات وضباط الأمن والمخابرات في تلك المواجهات.
الحقيقة البارزة المستمدة من واقع ساحات المقاومة هي أن جيش الاحتلال وقادته السياسيين لم يتمكنوا من إغلاق أي من الجبهات الحربية التي استهدفت إسرائيل بعد حرب حزيران عام 1967، فجبهة الجنوب التي اعتقدت إسرائيل أن اتفاقية كامب ديفيد مع مصر أنهت وجودها، لا تزال قائمة لأن جبهة قطاع غزة حلت محلها عند حدود مصر وفلسطين المحتلة منذ عام 1948 وبقيت صامدة تطور قدراتها منذ تحرير القطاع عام 2005، وجبهة الشمال التي كانت ومازالت تشكلها سورية عند حدود الجولان المحتل، امتدت إلى جنوب لبنان وأصبحت قدراتها الحربية تهدد وجود الكيان الإسرائيلي، أما الجبهة الشرقية فقد تولت المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية مهامها وأجبرت جيش الاحتلال على نشر خمسين ألفاً من الجنود فيها لمواجهة الفلسطينيين الذين انضم إليهم إخوانهم من الأراضي المحتلة منذ عام 1948.
هذه الجبهات الثلاث ما زال جيش الاحتلال عاجزاً عن إنهاء وجودها والتغلب على أخطارها وإرادة شعوبها في زمن تدهورت فيه معنويات جيش الاحتلال والمستوطنين، وازدادت فيه التساؤلات حول عدد السنوات التي سيبقى فيها هذا الاحتلال في الأراضي العربية والفلسطينية المحتلة، وأصبح جيل المقاومين الثالث والرابع أقوى إرادة ومعنوية من جيل جيش المحتلين والمستوطنين.
هذه المقارنة بين أجيال أبناء النكبة وأجيال المحتلين، تؤكد من دون أدنى شك أن ميزان القوى لا يمكن لكفته أن ترجح إلا لمصلحة قوى المقاومة وأهدافه.