لا حديثَ اليوم يعلو فوق مصطلح «نهاية العالم»، على مرِّ التاريخ فإن أكثر من ينتظرونَ نهاية العالم إما يائسون من كل ما يجري حولَهم من دمارٍ وخراب، أو متطرفون لفكرةٍ دينيةٍ ما يظنون بأن خلاص العالم على يدِ مخلِّصهم سيضمن لهم الجنة، لكن بين هذا وذاك يظهر لنا الطرف الثالث، وهو الطرف الذي يستخدم هذا المصطلح ليحقق في السياسة انتصاراتٍ إعلامية ما يلبث أن يكتشف كم هي وهمية، هو كمن يريد أن يُمارسَ الحرب الإعلامية عبرَ بث الشائعة، التوقع، أو حتى الاستقراء وفقاً لمعطياتٍ معينة بهدف تعويم الفكرة التي يريدها للجمهور، بعدَ ذلك يقوم ببساطةٍ بتجاهل الإيضاحات التي تُثبت عدم صحةِ كلامهِ لأنهُ أساساً يعرف عدم صحته، لكنه يريد أن يأخذَ الرأي العام في اتجاهٍ محدد وهو ما تحقق له.
منذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا حتى اليوم، شكَّلت فكرة التراجع عن التصريحات عند الطرف المعادي للروس مادةً دسمة، لكنها في الأسبوع الماضي كانت أكثر وضوحاً وسفوراً رغمَ ما يحققه هذا الطرف حسب زعمهِ من انتصاراتٍ على الأرض أدت إلى تراجعٍ عند القوات الروسية على العديدِ من المحاور، بدأها الرئيس الأميركي جو بايدن بالحديثِ عن «نهايةِ العالم» واستثمارهِ بتصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن استخدام أسلحة نووية موضعية في أماكن متفرقة، هذا الكلام للرئيس بايدن جرت مراجعته بشكلٍ مباشر من المتحدثة باسم البيت الأبيض كارين جان بيير والتي اعتبرت أن كلام بايدن أسيء فهمه، مؤكدةً أن الولايات المتحدة لم تقم بتعديل وضعيتها النووية الاستراتيجية لكونها لا تملك مؤشرات أن الروس يستعدون فعلياً لاستخدام أسلحة نووية، لكن هل هي المرة الأولى التي يُساء فيها فهم تصريحاتِ الرئيس الذي لم يعد يعرف بسبب المرض حتى اتجاهات سيره؟
حال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ليس بأفضلِ حالٍ من جو بايدن، الرجل الذي يخرج بشكل يومي على مواقع التواصل الاجتماعي ليحدثنا عن الإنجازاتِ المُحققة عارضاً على المستسلمين من الجيش الروسي العفو والصفح، طلب من «الشركاء» كما سمَّاهم توجيهَ ضرباتٍ وقَائية للروس لمنعهم من استخدام السلاح النووي في أوكرانيا، هذه الدعوة استنفرت العواصم الداعمة لزيلنسكي مطالبةً الرئاسة الأوكرانية بإيضاح هذه التصريحات لكون الدول الداعمة للنظام الأوكراني لم ولن تكون طرفاً في هذه الحرب ولا تفكر بدخول المواجهة مباشرةً من الروس، فعلياً أظهرت هذه التصريحات حجم ما يعانيه زيلنسكي من جهلٍ في أبسطِ الأشياء، هل يعرف فعلياً هو ومن يمتلكهم من مستشارين، ماذا يعني حصول هكذا ضربات؟ أم إنه يعلم لكنهُ سئمَ الوعود البرَّاقة التي جعلَت من أوكرانيا واجهة لحربٍ يدفع ثمنها الأوكرانيون بدلاً من دول الناتو مجتمعة، تصريحات زيلنيسكي تلك التي سارعت الرئاسة الأوكرانية لتفنيدها بأنها مرتبطة بعقوباتٍ موضعية وليس ضربات، جعلت السؤال عن حقيقة من يقود الحرب من الجانب الأوكراني يعود وبقوة، لكن الأهم أن هذا التصريح جاءَ بمثابةِ إثبات للجانب الروسي بأن حربهم كانت قراراً سليماً.
إذاً «نهاية العالم» الذي يطلبه زيلنسكي ويبشرنا بهِ بايدن وينتظرهُ من يظنون بأن الله لم يهدِ سواهم، يبدو مؤجلاً، فمن الواضح بأن المعركة مستمرة عبر حرب بالوكالة لا أكثر، ما زال «ناتو» يحاول جرَّ الروس نحو الحرَج الإعلامي بمعزلٍ عن الرغبة بتحقيق انتصاراتٍ نهائية وهذا يبدو مفهوماً لكونهم يُقاتلون بواجهةٍ أوكرانيَّة، هذا الحرج الإعلامي يستهدف الروس في المناطق التي أعلنوها خطوطاً حمراً، فعلى سبيل المثال تحدّثَ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعدَ نجاح الاستفتاء المحلي الذي أقامتهُ دونيستك ولوغانسك وخيرسون وزاباروجيا عن تحولِ هذه المناطق إلى أراضٍ روسية سيتم التعاطي مع أي عدوانٍ عليها بصورةٍ صارمة، ما هي إلا ساعات حتى بدأ الجيش الأوكراني هجوماً مضاداً استعادَ فيهِ حسب إعلام النظام أكثر من مئتي قرية، بل إن التراجع في القوات الروسية جعلَ الكثير من القوات المحلية الموالية للروس صيداً سهلاً اُرتكبت بحقهم مجازرَ تصفيةٍ جماعية، هل تفاجأ الروس فعلياً من حجم الهجوم؟!
بذات السياق كان الروس قد حذروا مراراً وتكراراً من استهداف منطقة القرم، بالأمس تم استهداف الجسر الذي يربط القرم بروسيا وأخرجهُ عن الخدمة تماماً، هنا بدأت الشكوك تُثار من جديد حول القدرات الروسية بحماية المناطق الحيوية وأفردَ الإعلام الغربي ساعات من البث للحديث عن هذهِ الفكرة، لأنَّ ما جرى هو أشبه بتفجيرِ سيارة مفخخة في قلب الساحة الحمراء في موسكو، الفكرة ليست بما حدث، الفكرة كيف حدث؟ إن كان الهجوم ناتجاً عن طيارة من دون طيار فكيف عبرت الدفاعات الجوية الروسية؟ وإن كانت قد حصلت عبر تفجير سيارة مفخخة أيضاً هناك سؤال مهم كيف عبرت؟ لكن وبحسابٍ بسيط فإن هذا الحدث على ضخامتهِ الإعلامية، يبدو عادياً، ولا يزعزع الثقة بالقدرات الروسية، لكنه نجاح إعلامي جديد لمن يروجون اليوم لقوة الجيش الروسي، بل ولنكن صادقين فالروس فشلوا كثيراً في استثمار التحول بالرأي العام الغربي لمصلحتهم مع بداية الحرب، يومها كان هناك كثر يتساءلون:
لماذا نخوض الحرب في أوكرانيا؟ ولماذا لم نفاوض بوتين؟ اليوم هناك الكثير من العبارات التي تغرد في سربٍ آخر: إذا كان الجيش الأوكراني لوحدهِ قد أوقع كل هذه الهزائم بالروس ماذا لو انقضَّ الناتو بصورة واحدة؟!
بالتأكيد من يطرح هكذا تساؤلات يتجاهل بأن الروس واقعياً يواجهون حلف الناتو، بل من الواضحِ أيضاً بأن الروس باتوا مقتنعين بأن الحل هو بإطالةِ زمن الحرب عبر ورقة الاقتصاد، لكن الحرب الاقتصادية ما زالت أبعدَ من المتوقع فتقارير فرنسية مثلاً أعلنت قبل أمس بأن خزانات الغاز الاستراتيجية تكفي لمدة عام، وبدائل الطاقة الكهربائية جاهزة عبر المفاعلات النووية المتوقفة عن العمل، من الواضح أن ألمانيا وفرنسا حتى الآن هما الأكثر تضرراً لكنهما بذات الوقت الأكثر قدرة على التعاطي مع هذه الأزمة، لكنها لعبة الوقت التي تبدو المواجهة فيها خارج نطاق الصراع التقليدي تحديداً بما يتعلق بالنفط، فهل باتت المملكة العربية السعودية بيضةَ القبان في هذا الصراع؟!
منذ أن بدأ ولي العهد السعودي محمد بن سلمان حملةَ الإصلاحات في المملكة العربية السعودية، قلنا إن الرجل يمتلك فعلياً رؤية جديدة تستثمر في الداخل لتمكين قوتها في الخارج، لكن هناك من لا يزال يصر على أن يضع المملكة وولي عهدها أو رئيس وزرائها في ذات البوتقة التي لا تُخرج المملكة عن أدوارها التقليدية بدعم الوهابية أو حتى حرب اليمن التي نتمنى أن تتوقف، لكن في المقابل هناك الكثير الذي علينا رؤيته والذي يمكننا مستقبلاً البناءَ عليه وما يهمنا اليوم في هذا السياق هو عدم انصياع المملكة لمطالب الرئيس الأميركي لرفع إنتاج النفط بهدفِ خفض الأسعار، تمردَ السعوديون على المطالب الأميركية المبطنة بتهديداتٍ آخرها قيام نواب بإعدادِ مشروع قرار يلزم الرئيس الأميركي جو بايدن بسحب قواته من السعودية إلى أي مكان آخر في الشرق الأوسط كعقابٍ لها على عدم الانصياع للمطالب الأميركية هو جزء لا يتجزأ من الحرب طويلة الأمد في الاقتصاد، بل وربما لو أن أي دولة أخرى قامت بذات الموقف تجاهَ المطالب الأميركية لسمعنا تطبيلاً لانهايةَ لهُ لهذهِ المواقف، بل إننا تحدثنا هنا سابقاً أن الولايات المتحدة وعندما تحين الفرصة ستنتقم حكماً من المملكة، لكنه من الواضح أيضاً أن الجميع يحاول الاستثمار في عناصر القوة التي يمتلكها وهذا ما يفعله الروس والسعوديون، الجميع فيما يبدو كسر الإطارات النمطية للصراعات في هذا العالم لأن الدروس والعبر باتت أكثر من أن تعد، الجميع بات يريد تجنب مصير من سبقوه وفي النهاية ليس هناك من نهاية لهذا العالم وليس هناك حرب نووية، هناك حرب اقتصاد ستكون هي المفصل في تحديد كل التوازنات وأول من يدفع ثمنها هم الأوروبيون وآخر من يتعلم منها وللأسف هم العرب، فهل تكون المملكة العربية السعودية استثناء؟ نتمنى ذلك!