ثقافة وفن

المدائن والانتساب انتماء أم حاجة؟ … ينتمي الإنسان إلى المكان ما دام يشعر بالأمان

| إسماعيل مروة

يتحدث الأدباء والشعراء والكتاب في كل زمان ومكان عن المدينة والانتماء إليها، والعشيرة والأهل، والقبيلة والاحتواء، وفي أدبنا العربي تحديداً تجد هذه الظاهرة المسوّغة حيناً، والمرضية في أحايين كثيرة، فهذا مدينته أعرق المدن، وحيّه هو أرقى الأحياء، وناسه هم أصل الناس والأشياء!

ومنذ مدة جرت مناقشة عبر وسائل التواصل وخصام بين من يقول دمشق أقدم من حلب، ومن يقول حلب أكثر عراقة من دمشق! ولا تملك إلا أن تعجب..

أيهما الأقدم؟

يتباهى الدمشقيون بأن دمشق أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ، ويرسل الدمشقيون رسائل إلكترونية يتحدثون فيها عن دمشق في الخمسينيات وكيف كانت هادئة وجميلة ونظيفة، وحقّ لهم أن يفاخروا بذلك، ويخرج لك أحدهم ليتحدث عن حلب وأقدميتها، وبأنها تعود إلى إبراهيم الخليل وحلب الناقة أو ما شابه، وبأن المنظمات الدولية صنفتها على أنها المدينة الأقدم، وربما ساعد التاريخ والتنقيب على أن يخرج أحدهم ليقول بل (أذرعات) وهي درعا وسهل حوران هي الأكثر قدماً، وربما ساعدت الكشوف والقبور على عدّ (اللجا) أو الكهوف في الجبال على أنها الأكثر قدماً! والسؤال المهم: ماذا يعني أن تكون هذه الأقدم أم تلك؟ هي قراءة تاريخية وكشوف، لكنها لا تقدم للذي يعيش على أرضها اليوم أي فائدة، سوى الفائدة السياحية والترويجية، وهذا أمر لم نستطع أن نتقنه عبر تاريخنا الطويل، فلم نروّج لسياحتنا التاريخية أو الدينية أو الطبية أو ما شابه ذلك، فلم نجد رحلات في يوم إلى قبر أبي العلاء أو أبي تمام، ولا غيرهما، ولم نجد دراسة عن حركة دولة بني حمدان في حلب وحركة جيوش الدولة في مواجهة الروم! ولم نسمع بزيارة (مارمارون) الذي ينتسب إلى سورية إلا في مرحلة حديثة، وعندما نشطت الحركة السياحية في بلادنا ذات عَقدٍ من الزمن كانت السياحة الترفيهية التي لا تعتني بالتاريخ ولا يعنيها تصنيف اليونسكو وغيرها من المنظمات أو الكتب أو التصنيفات!

القِدَم ليس ميزة

تقام اليوم مدن كبيرة بمواصفات مهمة، ونجد الناس يتوجهون إليها، ففي بلادنا اليوم، المنتجعات الحديثة أهم بكثير عند الناس من رأس البسيط ورأس ابن هانئ، لتوافر الخدمات وسويتها، وشرم الشيخ في مصر أهم من قلعة قاتيباي، ومن فندق فلسطين في الإسكندرية، ومن قصور الملك فاروق كذلك! بل إن كثيرين ممن سكنوا مصر ولأعوام لم يعرفوا شيئاً عن البردي والموميات والأقصر وأسوان وغير ذلك مما يباهي به المصريون، وكل ما يخلقه هذا التنافس والتباهي هو التناص وربما الحقد والكره بين أبناء المدائن، فهذا دمشقي وآخر حلبي، وهذا حمصي وذاك حموي، وهذا قاهري وذاك إسكندراني أو صعيدي، ومرة في جلسة في القاهرة تحدث أدباء عن رواية لواحد منهم، فقالوا: هذا إسكندراني لا علاقة له بالقاهرة، وهكذا تم تسفيه العمل وصاحبه! ربما اكتسبت دمشق عظمتها من قدمها وتوالي العصور عليها، وانتقال الحكم الأموي إليها، وفي الفترات التي لم تكن دمشق فيها عاصمة خفت بريقها، وصارت تستنجد بالحكام، وحين كانت حلب عاصمة الحمدانيين كانت مقصد المتنبي لأنها العاصمة، وكانت دمشق ترضية لواحد من الأمراء الحمدانيين، وكل همهم أن يبتعد عن العاصمة المركزية حلب! فالقِدم تاريخ وحضارة وليس ميزة للتفاخر، إلا بقدر ما يقدّمه للذين يعيشون على أرض الواقع.

التغني السلبي دوماً

عملت الحكومات العربية المتعاقبة على إرساء هذه الظاهرة المرضية فبغداد كل العراق، ودمشق كل سورية، والقاهرة كل مصر، حتى إنهم يطلقون عليها لقب (مصر) لتختصر الدولة، وبنغازي وطرابلس كل ليبيا وبيروت كل لبنان وهكذا أعطت الحكومات أبناء هذه المدن ميزات ليست لهم، وحمّلت المدن أعباء ثقيلة من خلال المركزية، وفي العقد الأخير صرنا نسمع أسماء مدن وحواضر وأوابد هي أكثر أهمية من المدائن المشهورة، والتغني بدمشق وبيروت والقاهرة أمر مهم وجميل، ولكنه تحوّل إلى أهزوجة سلبية يرددها الكارهون أيضاً، فالياسمينة الدمشقية يتغنى بها من لا يميز بين أنواع الياسمين!

وهكذا تم اختصار الناس بالمدائن، والبلدان بالعواصم، فتقزم المشهد فهذا مغن صعيدي كبير، وذاك منشد حمصي، وثالث شيخ حلبي ورابع شيخ كرخي وهكذا، وكأن انتماءه لغير العاصمة يقلل من قيمته! وكأن الانتماء إلى العاصمة يرفع الدرجات!

لم تعمل الحكومات العربية منذ الاستقلال على إنعاش المدائن، لو فعلت لأوقفت الهجرة الداخلية في كل البلدان، ووزعت الاهتمام بين المدن، وربما أنشأت مدناً جديدة في المساحات الشاسعة الممتدة بين المدن، لتمتد الحياة، وتتوسع الخدمات، ويحدث الاستقرار، ويصبح المكان مهماً، ولا يصبح القادم إلى مدينة محل هجوم أبنائها، لأنه حسب زعمهم يأخذ من فرصهم، ولا يقدرون على مواجهة بضغط من الحكومة المركزية التي أرادت الذوبان، ولم تحضر له ما يجب ليكون صحياً!

وهذا الجو يخلق نوعاً من التغني السلبي، وخاصة ممن يجهله ولا يعرف تفاصيله، ففي الحرب على سورية انهالت آلاف ومئات الآلاف من المقالات الوجدانية التي تتحدث عن الشام وياسمينها، وسورية وعظمتها، ومن خلال أقلام لا علاقة لها بأي أمر من هذه الأمور، لا لشيء، إلا لتكتسب فضل الانتماء! وكأن القول وحده يمكن أن يعطي خصيصة الانتماء! وبالمناسبة فإن المنتمين قولاً إلى المدائن يشبهون المنتمين إلى الشرائع والمذاهب، وهم ليسوا منها، إنهم يتعصبون أكثر من المنتمي الأصلي لإثبات ولائهم. وهذا يؤثر سلباً بطريقة مباشرة، ويعطي ردود فعل سلبية تجاه المدائن وما تمثله!

وما يضير الرموز من نقد؟

يحاول كثيرون في أبحاثهم ومقالاتهم أن يدافعوا عن المدن، ومن ذلك ما قرأته مرات كثيرة من دمشق الشام، ومن أنها تعدّ الحاضرة التي لم ينلها الهجاؤون إلا نادراً! وعندما هجوها هجوها لسبب خاص بهم! بينما المدائن الأخرى هناك من تناول مثالبها، قد يكون ذلك صحيحاً، ولكن ماذا يضير المدن والحواضر إن انتقصها منتقص أو هجاها أحد كالأبيات القليلة التي أثبتها الراحل محمد المصري عن دمشق في (الديوان الدمشقي)؟ فإذا ما انتقدت القاهرة أو بغداد أو دمشق أو بيروت أو حلب من أحدهم فماذا يؤثر ذلك؟

كم من كسول يقضي حياته متسولاً في شوارع هذه المدائن، يجلس في مجالس التنابل، ويريد من المدينة أن تجعله في مصاف الأغنياء، والأثرياء، والوجهاء؟!

فإذا لم يحصل هذا على بغيته في أي بقعة من العالم ألا يمكن أن يهجو ويشتم؟

ألم نسمع بمن عاد من أوروبا أو أميركا بعد هجرة ليشتم لأنه لم يعد مسموحاً له أن يتلقى الإعانات؟

إذاً لا مشكلة في أن يكون هذا الانتقاد والانتقاص للمدائن وأهلها من أي شخص كان، ولكن المشكلة أن ثقافتنا الشفوية المتوارثة خلقت خصاماً بين الناس في هذا الميدان، وخلقت نوعاً من التعصب أساء للبلدان والناس، والأكثر أهمية أنه أساء للعلاقة بين أبناء هذه البلدان، وكأن الميلاد والنشأة هما خيار كالشريعة والمذهب كذلك يدفع المرء ثمنه!.

لا قيمة للتفضيل نسمع من واحد قوله عن أمه وبلده وأسرته بأنها الأعلى والأسمى والأكثر عظمة، لكن هذه الأشياء، وخاصة من أنصاف المثقفين تحتاج إلى تحرير ورفض، فالأم لابنها هي أهم شيء، ولكن ليس من حقه أن يجعلها أعلى نساء العالمين على الآخرين وبلاده عظيمة ولكنها ليست أفضل بقعة في الكون، وإن كانت كذلك فيلزمها ولا يفارقها، ما دامت الحياة كل امرئ أمه سيدته الأولى.. وإن لم تكن كذلك.

كل امرئ ينتمي إلى بلدته ومدينته ودولته كما رأى، وقد لا يكون منها أصلاً، وهذا حقه.

كل امرئ ينتمي إلى شريعة أو مذهب من حقه أن يلتزم به، ولكن ليس من حقه أن يراه الأفضل، وأن يعمل على التعميم له ولتعاليمه.

إن صيغة التفضيل في اللغة هي صيغة تؤدي غرضاً بلاغياً، ولكنها غادرت كتب اللغة لتسكن في العقول، فصار التفضيل للبلدة والمدينة والشريعة والمذهب والقبيلة فضاعت الحدود، وفقدت الهوية قيمتها، وفي مرحلة سيصبح التفضيل سياسياً أو اقتصادياً أو ثقافياً أو شخصياً أو مصلحياً وبدأنا نرى بوادره، وعندها ستتلاشى كل الثوابت التي يجب أن تبقى ثوابت، ولا يعنينا البحث إن كانت الأكثر قدماً حلب أم دمشق!.

والانتماء حاجة للإنسان في كل ميدان، ولا فضل له لأنه ينتمي ليحفظ ضعفه ونفسه!.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن