تؤكد الوقائع أن مضي قرابة السبع سنوات على وجود قوات الاحتلال الأميركي في سورية بذريعة محاربة تنظيم داعش الإرهابي، لم تستطع إعطاء واشنطن بعداً إستراتيجياً، أو ثقلاً سياسياً إضافياً في المنطقة، بل إن بسط سيطرتها على مناطق واسعة شرق سورية، بشكل مباشر عبر قواعد غير شرعية، أو بالوكالة من خلال دعمها ميليشيات «قوات سورية الديمقراطية- قسد»، عرّضها إلى الكثير من الأخطار والهجمات، وزاد بشكل أو آخر من نقمة شعبية واسعة ضد «الأصيل والوكيل».
في الأيام القليلة الماضية برز أمران لافتان ومتناقضان على صعيد تحرك الاحتلال الأميركي في سورية، التناقض جاء لجهة التعاطي مع القوات الروسية العاملة في سورية، حيث أكد مصدر أميركي رفيع المستوى لوكالة «أسوشيتد برس» أن بلاده لم تستخدم، خلال إحدى الغارات مؤخراً في إحدى القرى الخاضعة لسيطرة دمشق، وعلى مقربة من مواقع روسية، قناة الاتصال بين الجيشين «الروسي والأميركي»، التي تم إنشاؤها لمنع وقوع حوادث عرضية على الأرض، ليليه مباشرة قيام وكالة الأنباء الفرنسية بالتأكيد أن وحدات الاحتلال الأميركي المنتشرة في سورية ليست بصدد المواجهة مع الروس، عبر نشرها صوراً لالتقاء دوريات عسكرية روسية وأميركية بالقرب من مدينة القحطانية في محافظة الحسكة.
غالباً، وفي كثير من الأحيان دائماً، ما تعكس تقارير الصحف الكبرى ومراكز الدراسات والأبحاث الأميركية سياسة الإدارة الأميركية الخارجية، أو تشكل تلك التقارير آلية عمل للإدارة، ولا تتحدث عن موضوع أميركي إستراتيجي من باب العشوائية أو المصادفة، وسواء أكان هذا أم ذاك فمن اللافت جداً حديث مجلة «فورين أفيرز» أمس عن انسحاب قوات الاحتلال الأميركي من سورية، والأسباب الموجبة لذلك، والطريقة التي يجب الانسحاب منها.
بناء على أدوار تلك المعاهد، فإن تقرير «فورين أفيرز» بقلم كاتب خبير وهو كريستوفر الخوري الذي عمل مستشاراً لسياسة العراق وسورية مع مكتب المبعوث الرئاسي الخاص للتحالف الدولي المزعوم لهزيمة تنظيم داعش الإرهابي من كانون الثاني 2017 إلى كانون الأول 2019، وشغل مؤخراً مستشاراً أول للسياسات في معهد توني بلير للتغيير العالمي، يعكس نية الإدارة الأميركية، أو يكشف الخبايا المستقبلية القريبة لسياسة إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في سورية، وفي مقدمتها سحب قوات بلاده من شمال شرق سورية، إذ يؤكد أن «الوجود العسكري الأميركي في سورية لم يعد يشكّل رصيداً إستراتيجياً، وحان الوقت لواشنطن أن تسحب قواتها».
جدية كلام الخوري تنبع من تحذيره واشنطن من انسحاب عشوائي على غرار الانسحاب من أفغانستان، وتقديمه مسوغات ذاك الانسحاب، وفي مقدمتها مخافة مواجهة أميركية- روسية مباشرة غير مقصودة، وتعرض قواعد الاحتلال الأميركي إلى هجمات متكررة مع تعثر المفاوضات النووية مع إيران، وأنه يمكن احتواء تهديد تنظيم داعش من دون تعريض القوات الأميركية للأذى، وذلك من خلال تنفيذ عمليات بطائرات من دون طيار وغارات جوية، لمواصلة الضغط لمكافحة ما تبقى من التنظيم.
إذا كان البعض يستبعد عملية انسحاب أميركية من سورية، ربطاً مع ازدياد حدة المواجهة والصراع في أوكرانيا، وألا يسجل ذاك جولة انتصار لمصلحة دمشق وموسكو، فمن المؤكد أن الإدارة الأميركية تعمل على إعادة إستراتيجية عملها في سورية بطريقة تحمي فيها جنودها، خاصة مع إدراكها أن الساحة السورية باتت ميداناً خطيراً عليهم، لقرب ساحات وجودهم وعملهم مع عمل الجيش العربي السوري والقوات الروسية الصديقة لدمشق، الأمر الذي دفعها إلى استخدام «المسيرات» في غاراتها، ونشر مسلحين من ميليشيات «قسد» في محيط قواعدها غير الشرعية.
في المحصلة فإن سورية هي إحدى جبهات المواجهة الروسية- الأميركية، ومع سعي الجميع للفوز في حرب سوف تقلب نتائجها، أياً يكن المنتصر، موازين القوى العالمية، وتؤسس لنظام عالمي أشبه إلى حد كبير بنظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، فإن الجميع يعمل على مراكمة أوراق القوة هنا أو هناك، ومع ترجيح انتصار روسيا في حربها الكبرى الدائرة ضد الغرب في أوكرانيا فإن قيام أميركا بدراسة خيار الانسحاب من سورية، قبيل محاصرتها، بنصر موسكو في أوكرانيا، يشكل بحد ذاته ورقة رابحة لواشنطن، يجنبها جلوس ذليل على طاولة الحل السياسي حول سورية، إذا ما تلقت خبر النصر الروسي وهي على الأراضي السورية.