أعترف بأنني على المستوى الشخصي لستُ من هواةِ التغني بالتاريخِ والأمجاد، لا أحب عبارة كان أجدادنا يفعلون كذا وكذا واكتشفوا هذا وذاك، ليسَ من مبدأ الانسلاخ عن الجذور بل على العكس كنتُ ولا أزال وسأبقى أعتز بجذوري وشرقيتي وعروبتي لكنني، ببساطة لا أُحب تناول التاريخ من الجانب الذي يخدم صورتنا فحسب، فمن يريد تقييمات كهذه فعليهِ أن يتعاطى مع الصورة بسلبياتها وإيجابياتها، كذلك الأمر فإن الحضارات استمرارية فبماذا يفيدنا بأن الحسن بن الهيثم أول من تحدث في البصريات والوقت ذاته لا يوجد شركة عربية واحدة تقوم بتصنيع ولو حتى الإطارات الطبية؟! بالوقت ذاته هذه الحضارات مكمل بعضها لبعضه الآخر ولا يمكن لها أن تتصادم، التصادم المنسوب للحضارات هو تصادم المصالح والطموح، فما الذي يضيفه إلي وجود قصر الحمراء الشهير في الأندلس إن كنا غير قادرين على الاعتراف بأن الأندلس قد دخلناها عنوةً وكُنا فيها «استعماراً»؟!
لكن في السياق ذاته هذا كله لا يمنعني من الشعور بالغبطةِ والفرح عند قراءتي لخبرِ اكتشافِ صرح تاريخي هنا أو أثر نادر هناك، تحديداً إننا جميعاً نعرفُ بأن الأرض السورية بحدودها الطبيعية لا المصطنعة شكّلت مهداً لكثيرٍ من الحضارات كان آخرها اكتشافَ لوحةَ فسيفساء نادرة في مدينةِ الرستن.
ما إن انتشر خبر هذا الاكتشاف حتى بدأَت التعليقات السلبية والمُحبطة، البعض تساءل: هل ستتوفر المحروقات أو تنخفض الأسعار بعد هذا الاكتشاف؟ ماذا عن جدوى هذه الاكتشافات إذا كانت ستلقى مصير الكثير من سابقاتِها كالأوابد الأثرية التي تحولت إلى مناطق مُقفرة لا اهتمام ولا عناية بعدَ أن نُهب الكثير من قطعها النادرة حتى ما قبل الحرب على سورية؟
تبدو هذه التساؤلات واقعية خلفها الكثير من السلبية والإحباط، مبدئيَّاً لا يمكن النظر لهذا الاكتشاف بتبسيط كهذا، فالتشكيل الفسيفسائي هو فن قديم يعود بجذورهِ حتى العصر السومري، بل أن هناك من يعتبرهُ أقدمَ فن للديكور والتصوير في العالم لم تتوفر عماله المهرة في كل الحضاراتِ السابقة، بالسياق ذاته هناك الكثير من اللوحات التي ساهمت في حل الكثير من الألغاز التاريخية بما فيها فن العمارة عند الرومان وصلته بالحضارة اليونانية. من جهةٍ ثانية فالأوابد الأثرية والتحف لا تأتي بالبترول، لكنها قد تأتي لك بمن سيدفعون لمشاهدتها ما يعادل إنتاج حقول لا حقل من البترول، السياحة اليوم هي صناعة حقيقية تقوم عليها اقتصادات دولٍ بعينها كفرنسا واليونان ومصر، وفشلنا الدائم باستثمارها بالطريقة الصحيحة بما فيها عائدات الدخول قلل من قيمتها واختصرت تلك الصناعة بالسياحة الدينية التي هي في النهاية لا تدخل ضمن إطار «صناعة السياحة» لأنها تقوم من دون عوامل جذب سياحية.
في الخلاصة: لا أعرف إلى متى سنبقى نلعن تاريخنا، هل ذنب أولئك الذين أبدعوا هذه اللوحة أنهم أبدعوها في المكان الخطأ؟ لا أعرف ولكن ما أعرفه فعلياً أن كل ما يتعلق بالأوابد والآثار وتشكيله لجزءٍ مهم من ثقافة هذا البلد علينا إعادة النظر حتى بطريقةِ استثماره ليكون متاحاً لمن يقرر زيارته، ماذا لو فكرنا يوماً بإنشاء متحفٍ ضخم واحد لكل هذه الحضارات؟! الأمر جدير بالتفكير تحديداً أننا لو قررنا أن نُخرج كل ما تحتويه الأرض السورية من أوابد لما كفانا حفر الأراضي السورية باتجاهاتها الأربعة.