ثقافة وفن

نصير شورى عودة إلى الطبيعة مرة ثانية وأخيرة … مُنح وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى عام 1981 … ذهب إلى الفن التجريدي مع الحفاظ على حساسيته الخاصة

| سعد القاسم

أشير في الحلقة السابقة إلى أن نصير شورى بقي طوال حياته تواقاً إلى السفر والاستزادة من المعرفة، فإضافة إلى رحلاته التي تحدثنا عنها سافر عام 1980 إلى الولايات المتحدة برفقة محمود حماد وعبد القادر أرناؤوط بضيافة د. صباح قباني السفير السوري في واشنطن. ثم رأيناه في ملتقى دولي بتشيكيا عام 1990 يجلس القرفصاء – وهو في السبعين من عمره – يرسم عن الطبيعة مباشرة وقد وضع أوراقه على الأرض.

الأسفار والمرسم

كانت هذه الأسفار فرصة شورى للابتعاد مؤقتاً عن مرسمه لأجل اكتشافٍ جديد. وقد حفزته على البحث وتطوير عمله بدراسات متعددة صغيرة الحجم، كان يملأ بها أوقات فراغه ولا يطلع عليها سوى محمود حماد، وبعض أصدقائه المقربين لتكون موضع نقاش في جلساته الخاصة. وكما يذكر حماد فقد شكلت هذه الدراسات لديه أزمة تجاه الأسلوب الذي اختطه لنفسه حتى ذلك الحين، ونمّت رغبته في مجاراة طرق التعبير المعاصرة. فقد كان يبحث من خلالها عن طريق يتجاوز فيه تجربته السابقة التي تراءى له أنها استنفدت طاقاتها التعبيرية. كانت دراساته تلك تتراكم على قطع صغيرة من الورق يلقي عليها بأشكاله وألوانه بعفوية وطلاقة، ثم يضعها جانباً. وفي الوقت ذاته استمر بعرض لوحات من أسلوبه المعروف، فبقيت هذه الدراسات مجهولة. وقادته في الستينيات الماضية إلى الفن التجريدي، محافظاً في الوقت ذاته على حساسيته الأصيلة واهتمامه باللون والنور. ولم تعرض نتائج بحوثه الجديدة على الجمهور السوري إلا في عام 1965 من خلال أربعة من أعماله التجريدية أرسلها إلى بينالي سان باولو في البرازيل. وعُرضت في دمشق مع الفنانين المشاركين في البينالي. وقد أثارت أعمال شورى الكثير حينذاك من التساؤل والاهتمام اللذين اتسعا مع لوحاته الخمس التي عرضها عام 1966 في معرض الفن السوري المعاصر الذي أقيم في متحف سرسق ببيروت. وكان شورى قد شكّل في عام 1965 مع محمود حماد وإلياس زيات جماعة تجريدية أسموها جماعة (د) نسبة إلى دمشق، وأقاموا معرضاً مشتركاً في صالة (الصيوان) شارك فيه فاتح المدرس، ومعرضاً ثانياً في صالة الفن الحديث. لم تأت أعمال شورى في متحف سرسق وفي بينالي سان باولو وفي صالة الصيوان نتيجة نزوة مرتجلة، وإنما كانت حصيلة تأمل طويل، وبحث جاد بدأ قبل عدة سنوات وتبلور في تلك السلسة من الأعمال التي عبرت عن ميله للوصول إلى الجوهر، جوهر الشكل واللون، فتحولت المرئيات لديه إلى بقع ملونة أهملت فيها التفاصيل العارضة واقتصر فيها على ما هو أساسي تشكيلياً. واستفاد شورى في مرحلته التجريدية من الخصائص التقنية لفن الفسيفساء، فاستعمل الأحجار والحصى الملونة على الشاطئ السوري في أحد أعماله. ويرى المعلم محمود حماد في حديثه عن تلك المرحلة أنه توافرت في أعمال شورى التجريدية «قدرة جديدة في التعبير عن ذاتية الفنان، وجرأة أوسع في التكوين المبتكر، وثراء في الانسجامات اللونية النادرة والملمس الثمين ترتعش فيه السطوح بإيقاع هندسي محكم. «ورأى الناقد طارق الشريف في مقالة نشرها عام 1992 – مع اكتمال تجربة نصير شورى برحيله – أن شورى ازداد حباً للألوان، وإغراقاً في تقديم اللوحة المتناغمة «حين تخلى عن الأشكال التقليدية في العمل الفني باحثاً عن أشكال جديدة ورؤى ملونة محضة، وذلك حين اتجه إلى التجريد وقدم العلاقات الملونة بعيداً عن رسم الواقع الظاهر، وما يفرضه من مفاهيم فنية وأعطى لنفسه الحرية الكاملة».

المعهد العالي للفنون

في عام 1960 تأسس المعهد العالي للفنون الجميلة في دمشق (الذي أصبح فيما بعد كلية الفنون الجميلة)، بالتعاون مع جامعة الاسكندرية، وكان شورى أحد الأساتذة الثلاثة السوريين فيه إلى جانب المعلمين محمود جلال وناظم الجعفري، وإثر رحيل الأساتذة المصريين عام 1961 استعان المعهد بمجموعة من الأساتذة الأوروبيين، لملء الفراغ الحاصل برحيل الأساتذة المصريين، كان منهم أستاذ النحت البلغاري تيودوروف، والنحات البولوني زيبروسكي، والمصور الإيطالي غيدو لاريجينا الذي خلق اضطراباً كبيراً في مفاهيم التدريس بين اتجاه تقليدي صارم مثلّه الفنان ناظم جعفري، واتجاه ينشد الحرية في التعبير تجسّد في الفنان فاتح المدرس. كان لاريجينا قد حضر عام 1963 إلى بيروت مع معرض شخصي في متحف سرسق، وشارك في العام التالي بمعرض جماعي متنقل في ثلاث مدن (طهران وبغداد ودمشق). ثم بقي في دمشق ثلاث سنوات مدرساً في كلية الفنون الجميلة حتى عام 1967. وقد حكي كثيراً عن أثره في تحول شورى إلى التجريد. لكن هذا لا يتفق مع السرد السابق، مع حقيقة أن شورى اطلع على الفن التجريدي من خلال أسفاره التي سبقت قدوم لاريجينا إلى دمشق. ونجد ميول شورى التجريدية في لوحة (ساحة القرية) التي تعود لعام 1954 والتي نُشرت صورتها في الحلقة الماضية. وفي لوحة (فج معلولا) عام 1957 والتي يمكن اعتبارها تمهيداً أولياً للمرحلة الأخيرة من تجربته الفنية التي بدأت تباشيرها مع لوحة (المسجد الأقصى) عام 1968 حيث بدأ باستعادة حضور الأصل الواقعي في لوحاته. أو وفقاً لحديث المعلم حماد عن شعور شورى بالشوق إلى الطبيعة، «فيعود إليها بنظرة تمر من مصفاة التجربة التجريدية، وتتحول لديه المرئيات إلى أشكال مبتكرة متناغمة، ولا يعود المنظر الطبيعي تشبيهاً لمشهد معين، بل يغدو موضوعاً مبتكراً في كل جزئياته، يعكس الخبرات والرؤى المدخرة في حساسية الفنان. لذا فإن تجربة شورى الأخيرة ليست عودة إلى الطبيعة بقدر ما هي محصلة لمجمل تجاربه السابقة في قالب إبداعي جديد استعار فيها من الطبيعة رموزاً للأشكال والألوان وصهرهما في تكوينات ترك فيها لحريته مجالاً لابتكارات غنائية فريدة». وكذلك في حديث الناقد صلاح الدين محمد عن رجوع شورى إلى الطبيعة، «ولكن بالاستفادة الموفقة من تقنيّة اللغة التجريدية السابقة، مما تطلب منه اللجوء إلى هندسة مرنة لتصميم اللوحة للحفاظ على الشكل الواقعي للمرئيات.. مع عدم اهتمام بالتونات بقدر الاهتمام بالتجاورات اللونية.. وهذه نظرة انطباعية أساساً».

شورى والتكريم

في عام 1981 مُنح نصير شورى وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى. ورحل عن دنيانا عام 1992. وفي عام 2020 احتفل الموسم الثالث لأيام الفن التشكيلي السوري بمرور مئة سنة على ولادته. فتم تأليف مقطوعة موسيقية خاصة به عُزفت في حفل الافتتاح. وإقامة معرض لأعماله، وإصدار كتاب عن سيرته الحياتية والإبداعية.

كان نصير شورى من أنشط المشاركين في المعارض التشكيلية التي شهدت تطور تجربته من الواقعية الطبيعية منذ مطلع الأربعينيات حتى منتصف الستينات الماضية، إلى التجريد الهندسي في النصف الثاني من الستينيات، إلى الانطباعية من مطلع السبعينيات لأواخر الثمانينيات، فإلى ما يمكن وصفه بالانطباعية التجريدية. وهو الأسلوب الذي ظل مرافقاً له حتى آخر يوم في حياته، مع الاحتفاظ دائماً بروحها الانطباعية بأصولها وجذورها وتحولاتها. وهو ما جعل اسمه مرتبطاً بها، وجعله رمزاً سورياً لها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن