قضايا وآراء

اليمين المتطرف يشق طريقه في أوروبا بجدارة

| محمد نادر العمري

قبيل بدء العمليات الروسية الخاصة في أوكرانيا، دقت مراكز الدراسات الفكرية والبحثية العالمية عموماً والأوروبية خصوصاً أجراس الإنذار من سرعة تنامي أصول الأحزاب اليمينية ونشاطها في الدول الأوروبية، بشكل رُبطت فيه هذه المخاوف مع دخول مستقبل بقاء الاتحاد الأوروبي في دائرة الخطر، إذ شكل وصول دونالد ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة الأميركية بداية العام 2017 فرصة تاريخية لطالما انتظرتها جماعات اليمين المتطرف في أوروبا، لكي ترفع أصواتها وتعلن عن شعاراتها وتطرح أيديولوجياتها القومية والشعبوية والفاشية أحياناً على الملأ، وقبل هذا وذاك، كانت أزمة «البريكست» بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي قد بدأت، ولكلتا الدولتين أي أميركا وبريطانيا التأثير الكبير على دول القارة العجوز، وأكثر الصور التعبيرية على هذا التأثير، برزت في خطابات ترامب الشعبوية والغوغائية والعنصرية، التي خلطت في مستواها بين مفردات الشوارع والحانات لتستخدم على مستوى قادة الدول، كما كان لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عامل مؤثر في تهديد وحدة الاتحاد وتعرض هويته للتفكك، لكونها بلورت قوة ومكانة الخطاب المبني على «الهوية الوطنية» لكل بلد أوروبي بمعزل عن غيره. فالفصل بين اليمين المتطرف كخطاب وأيديولوجيا، والقومية والشعبوية، صعب في هذا السياق، فهو يستحضر عصر صعود القوميات في بداية القرن العشرين، وما فيه من إعلاء للذات الوطنية على غيرها من الشعوب، مستفيدة من موروث أوروبي عريق كانت النازية والفاشية أبرز صوره وتعبيراته، حتى بات تصنيف هذا الفكر اليميني المتطرف بـ«النازية الجديدة» أو «الفاشية الجديدة»، لأنه يستند إلى مقومات قديمة تتجدد.

إلا أن بدء العمليات الروسية الخاصة في أوكرانيا عرى حجم هذه العنصرية في أوروبا وانتشارها، إذ اتخذت أول تعبيراتها في خطاب ميليشيا «أزوف» النازية، التي ضمت في صفوفها مرتزقة من جنسيات مختلفة تنتهج الإرهاب سلوكاً لها عبر عشرات السنين بدعم من وكالات الاستخبارات الأميركية التي تعرضت عام 2018 لضغوط من مجلس النواب الأميركي بسبب تقديم الدعم لها رغم تصنيفها على قائمة الإرهاب، بالتوازي مع ذلك توحد الخطاب العنصري من الناحية السياسية في أوروبا المتغذية بالعداء لروسيا بفعل الضغط الأميركي، وهو ما منح الأحزاب والتيارات اليمينية جرعة إضافية نتيجة هذه التطورات التي استغلتها وسرعان ما ترجمتها في استقطاب المزيد من أصوات الناخبين لها داخل بعض الدول الأوروبية التي شهدت انتخابات برلمانية ومحلية متعددة، حيث ضاعفت من نسبتها التي كانت موثقة عام 2020 حسب تقرير لمركز استوكهولم الذي سجل نسبة أحزاب اليمين في بعض البرلمانات الأوروبية وفق التالي: السويد والنرويج وفنلندا وإيطاليا 17 بالمئة من البرلمان، والدانمارك 21 بالمئة، أما في هولندا وفرنسا 13 بالمئة على مقربة من ألمانيا 12.6 بالمئة، بينما بلغت في برلماني النمسا وسويسرا 26 بالمئة و29 بالمئة على التوالي، أما المجر فسجلت نسبة عالية بلغت 49 بالمئة.

بينما سجلت انتخابات 2022 حتى اليوم تسارعاً غير اعتيادي لصعود اليمين من المجر إلى النمسا والسويد وصولاً إلى فرنسا وأخيراً إيطاليا، ففي المجر تمكن حزب «فيديسز القومي» الذي يرأسه رئيس الوزراء فيكتور أوربان من حسم النتائج التي جرت في نيسان الماضي بأغلبية مطلقة نتيجة تحالفه مع الأحزاب اليمينية، بينما تمكّن حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف في فرنسا بزعامة مارين لوبان من تحقيق إنجاز تاريخي بالانتخابات التشريعية التي حصلت في شهر حزيران المنصرم لأول مرة منذ عام 1986، بحصوله على 89 مقعداً، أما الزلزال السياسي على مقياس أوروبا فقد حصل في السويد التي نجم عن انتخاباتها التشريعية فوز اليمين المتطرف واليمين الليبرالي بـ176 مقعداً بالتوازي مع فوز اليمين الوسطي والخضر بـ173 مقعداً في أثناء الانتخابات التي حصلت في بداية أيلول الماضي، هذا المد اليميني لم يقف عند ذلك بل امتد ليشمل إيطاليا بعد الفوز الاستثنائي الذي حققه تحالف اليمين المتطرف بزعامة جورجيا ميلوني نهاية أيلول بالانتخابات التشريعية الإيطالية ليعلن بعدها الاتحاد الأوروبي شعوره بالقلق والحذر مما يحصل من انقلاب في المشهد السياسي، إذ بالمقارنة بين الأرقام الموثقة لعام 2020 وما أفرزته الانتخابات التي حصلت 2022، فإن اليمين المتطرف قفز قفزات جنونية بإثبات وجوده تتجاوز 220 بالمئة مما كان عليه منذ عامين، وذلك نتيجة:

أولاً- وصول قادة مثل ترامب ورئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون إلى مناصب سياسية مهمة على المستوى الدولي، واستخدامهم خطابات شعبوية عنصرية مختلفة.

ثانياً- خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وما أفرزه ذلك من دوافع لقوى اليمين للسير على خطا بريطانيا.

ثالثاً- تداعيات كورونا الاجتماعية والاقتصادية التي أدت إلى فقدان الثقة بالعلاقات الجمعية والأمن الجماعي.

رابعاً- الدعم الغربي للخطاب العنصري والتطرفي تجاه روسيا واستمرار دعمهم السياسي والاقتصادي والعسكري للقوى المتطرفة بهدف استنزاف روسيا في أوكرانيا.

خامساً- انقلاب سحر العقوبات على الساحر، إذ أدت العقوبات الغربية المفروضة على روسيا إلى ارتفاع مصادر الطاقة والغذاء بنسب خيالية مع تراجع للنمو الاقتصادي ودخول أوروبا في مرحلة الخطر الطاقوي على كل الأصعدة، وهو ما أدى إلى تراجع نسب الرفاهية التي طالما تغنت بها أوروبا وأكسبتها لمواطنيها.

إن هذه العوامل ولاسيما العامل الاقتصادي، أبرز دور اليمين، ولاسيما أيديولوجياته وأدبياته المستندة إلى مفهوم «دولة الرفاه» المطبق في أوروبا الغربية والشمالية، ويعني تدخل الدولة من أجل تحقيق نظام تأمينات اجتماعية جيد للعمال والعاطلين من العمل والمتقاعدين، ودعم القطاع الصحي وقطاع التعليم إلخ، وبهذه المحاججة استطاع اليمين المتطرف كسب أصوات العمال والطبقة المتوسطة الدنيا، إذ هو يحارب اليسار الأوروبي بسلاحه التقليدي، ومن هذه النقطة استطاع اليمين المتطرف الربط ما بين الأزمة الاقتصادية والحرب والمهاجرين.

صفة «النازيين الجدد» بدأت تضرب وتراً حساساً في الغرب، إذ تعيد إلى الأذهان سنوات مظلمة من حكم النازية والفاشية في أوروبا، والمثير للدهشة أن أحفاد ضحايا الفاشية والنازية بين صفوف النازيين الجدد من جماعات الإرهاب، باتوا يحصلون على دعم وشرعية قد تتمدد أكثر مع ازدياد الوضع الاقتصادي سوءاً، وقد يتصاعد دورهم في المرحلة المقبلة بشكل لا يقتصر على المشهد السياسي فقط، بل الأمني والعسكري مع عودة الميليشيات المسلحة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن