بين الترسيم والاعتراف والتلاعب بالمصطلحات: إيران والسعودية وانقلاب المشهد!
| فراس عزيز ديب
في وقتِ باتت فيهِ المملكة العربية السعودية أمامَ مرصاد التدمير الأميركي قولاً وفعلاً، تحديداً بعدَ تصاعد اللهجة الخطابية بين الطرفين على خلفيةِ رفض المملكة الانصياع للتوجهات الأميركية بزيادةِ إنتاج النفط لضمان خفض الأسعار في الأسواق العالمية، يخرج وزير الخارجية الإيراني حسين عبد اللهيان ليقول إنَّ خطوات التوصل إلى اتفاق نووي تسير الآن على المسار الصحيح، ما يوحي أن الاتفاق بات قاب قوسين أو أدنى بمعزلٍ عن حجم التنازلات!
لا يخفى على أحد بأن مصطلح الاتفاق النووي بين إيران ودول «5 زائد واحد» هو بالنهاية اتفاق تطبيع للعلاقة بين إيران والولايات المتحدة، وعندما نقول الولايات المتحدة هذا يعني مصالح الولايات المتحدة في كل بقاع العالم بما فيها إسرائيل، أعجبتنا هذهِ الحقيقة أم لم تعجبنا، في السياق ذاته ندرك جميعاً أن التهديدات الأميركية المتعلقة بالمملكة العربية السعودية هي أبعد من مجردِ سحبَ قواتٍ أو إعادةَ انتشار، هناك الكثير من النقاط التي تستطيع الولايات المتحدة عبرَها ضرب الاستقرار في المملكة بما فيها سلاح العقوبات وتجميد الأصول، والسؤال هنا باتَ أبعدَ من فكرةِ من كان قادراً على توقعٍ انقلابٍ كهذا في المشهد الإقليمي، السؤال كيف يمكن لأي بحث أو تحليل أن يصدرَ متجاهلاً انقلاباً كهذا وما له من تبعاتٍ وتصويره بالطريقة التي تناسب العواطف لا الواقع؟ لنضع العواطف جانباً ونأخذ هذا الانقلاب ببعدين اثنين:
• أكثر من ترسيم وأقل من اعتراف!
إذا أرَدنا أن نعرف ماذا يجري في إيران فعلينا أن نعرف ماذا جرى في لبنان، هذه المقاربة طُرحت بكثرة في الأيام الماضية تحديداً بعد إعلان لبنان الرسمي التوصل إلى اتفاقٍ لترسيم الحدود البحرية مع الكيان الصهيوني بعدَ أشهر من المفاوضات عبر الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين، هذا الاتفاق سيتيح لكلا الطرفين البدء بعملية التنقيب واستخراج الثروات النفطية من البحر الأبيض المتوسط، هذا الاتفاق شكَّل سابقة بتاريخ التوافق بين الأفرقاء اللبنانيين بعدَ الكثير من اللاءات التي فرضتها الجهة التي لا تعترف بالكيان الصهيوني، ويرى من يطرحون فكرةَ الربط بين ما يجري من احتجاجاتٍ في إيران وتسهيل الاتفاق بين لبنان والكيان الصهيوني، عوامل تساعد في تعميق هذا الطرح، على هذا الأساس دعونا نعد للكثير من الأحداث المفصلية التي أوصلت لهذا الاتفاق:
أولاً، الدعاية الإعلامية التي قادها الإعلام التابع لذات الجهة التي ترفض الاعتراف بالكيان الصهيوني عند بدء الوسيط الأميركي لمهمته التي اعتبرته فيها إسرائيلياً جاء ليجسد المصالح الإسرائيلية، هذا الأمر حقيقي فالرجل يحمل الجنسية الإسرائيلية ومعروف عنه بالولاء لإسرائيل أكثر من أميركا، لكن ما الذي تغير بعد أشهرٍ من المفاوضات هل بات الوسيط واقعياً بين ليلةٍ وضحاها؟
ثانياً، نعرف جميعاً أنَّ هذا الاتفاق بحاجة إلى وجود رئيس للجمهورية ليوقِّع عليه، مع اقتراب انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون وعدم توافق اللبنانيين حتى الآن على انتخاب البديل فإن ضغطَ الوقت سرَّعَ من حدوث هذا الاتفاق خوفاً من فراغٍ قادم، ما السبب؟ علماً أن الكثير من الأفرقاء اللبنانيين المدافعين عن المصالح الإسرائيلية ولا يرون بإسرائيل عدو، خرجوا لمباركةِ الاتفاق!
ثالثاً، لا يبدو أن التلاعبَ بالألفــاظِ يفيد، اعتراف أم تطبيع أم ترسيم لا فرق، هذا الاتفاق هو إقرار من الحكومةِ اللبنانية بمن تمثل من أحزاب وكتل سياسية، بالحدود البحرية للكيان الصهيوني، هذا الاعتــراف يعنــي ضمنيــاً أن حالــة الحــرب بين أي طرف مع الكيان الصهيوني إن لم نقل بأنها انتهت، فهي مجمدة ما لم يحدث اعتـــداء مباشــر وهو لن يحدث، هذا يعني بأن شعارات من قبيل زوال إسرائيل وغيرها لم تعد ذات قابلية للصرف.
أنا هنا لا أنتقد الخيارات اللبنانية، هذا شأنهم، أتحدث فقط عن التوصيف الحقيقي بعيداً عن العواطف، هذه الموضوعية مرتبطة أساساً بفكرة موافقة شركة بوزن «توتال» الفرنسية على تحمل عواقب الاستثمار في هذه السواحل، وبالدور الذي لعبتهُ الشركة الفرنسية التي هي في النهاية واجهة اقتصادية ناطقة باسم الحكومة الفرنسية، نجحت في الحصول على هذا الامتياز لكن الضمانات التي تلقتها شركة «توتال» تبدو نهائية وقطعية، رأس المال جبان، رأس المال لا يأتي إلى منطقةٍ ليست مضمونة الاستقرار على الأقل لعقودٍ من الزمن، تحديداً عندما نتحدث عن استثماراتٍ في النفط والغاز تحتاج إلى منصات وبنى تحتية باهظة الثمن.
هذه التناقضات توحي بأن التسريع في اتخاذ قرار الموافقة على الاتفاق والإجماع عليهِ دونه الكثير من التدخلات، لكن لا أحد يستطيع عملياً تحديد نوعية هذه التدخلات هي مجرد استقراءات على أهميتها كصورة عملية لانقلابٍ في المواقف يُبنى عليهِ الكثير من التبعات.
• النفط أو الاستقرار
في أيار الماضي وفي مقالٍ بعنوان: «الإصلاحات السعودية وسياسة عض الأصابع النفطية.. هل يصمد حكام المملكة؟» قلت إن الديمقراطيين ليسوا راضين عما يجري في المملكة من إصلاحاتٍ مهما حاولت الدعاية المضادة تقديم ما يجري بأنه أوامرَ أميركية، في السياق ذاته لن ينسى الديمقراطيون الدعم الخليجي عموماً والسعودي خصوصاً، الذي تلقاهُ خصمهم الرئيس السابق دونالد ترامب، فالعقاب الأميركي قادم وعلينا جميعاً أن نقف ضدهُ كواجب إنساني وعروبي وأخلاقي بمعزلٍ عن رأينا بالطريقة التي أدارت فيها المملكة سياستها بما يتعلق بربيع الدم العربي، كان من الواضح أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان يحاول الاستثمار بهذه الإصلاحات في السياسة الخارجية وبمعنى آخر رفع الحجج التي تُتخذ ضد المملكة في الشأن الداخلي، عملياً لم يبقَ أمام ابن سلمان إلا تجاوز عقبة حرب اليمن التي نريدها جميعاً أن تنتهي، لكن من الواضح أنَّ هناك أطرافاً كثيرة لا يريدونها أن تنتهي، اليوم بات الانقلاب في المشهد أكثر وضوحاً بل إن ما يؤجل قرار الرئيس الأميركي جو بايدن البدء بعملية العقاب ضد المملكة هي انتخابات التجديد النصفي للسلطة التشريعية في الشهر القادم، تحديداً إن كابوس خسارة الرئيس الأميركي للأغلبية البرلمانية ما زال يؤرِّق إدارة بايدن الديمقراطية لذلك هو يريد استثمار ما يجري من انقلابٍ في المشهد الإقليمي باتجاهين:
الاتجاه الأول استثمار دعائي يتمثل بتوقيع الاتفاق النووي مع إيران، وتمكنه من تحقيقِ التوافق الممتنع لعقود بين لبنان والكيان الصهيوني، تحديداً إن الإدارات الديمقراطية المتعاقبة عُرفت بفتور العلاقة مع الكيان الصهيوني كما حدث خلال ولايتي الرئيس الأسبق باراك أوباما ورئيس وزراء العدو السابق بنيامين نتنياهو.
الاتجاه الثاني استثمار وقائي يتمثل بالحفاظ على استقرار أسعار النفط ولو بحدِّها الأعلى لضمان التوريدات ومنع أي خللٍ يؤثر في أمن الطاقة الأميركي، وهو ما قد يحدث في حال قررت الولايات المتحدة فعلياً خلخلة الوضع في المملكة.
في الخلاصة: إذا افترضنا فعلياً أنه لا يمكننا التعاطي مع الاحتجاجات التي تجري في إيران اليوم بصورةٍ منعزلة عن دور الجهات الغربية في تأجيج الحالة إعلامياً، وهو ما دفع وزير الخارجية الإيراني للحديث صراحةً عن الفرق بين الاحتجاجات والتخريب ما يعني فعلياً إقراراً بوجود احتجاجات، فإننا بشكل تلقائي علينا أن نعترف أن وقف هذه الاحتجاجات، أو لنكن أكثر دقة، تبديل طريقة التعاطي الغربي مع هذه الاحتجاجات، سيكون أو كان لهُ ثمن، في الصورة المقابلة إذا افترضنا أن المملكة العربية السعودية كما يصر بعض الإعلام على توصيفها هي الذراع الأميركي في المنطقة، فلماذا لم تذعن لمطالب الرئيس بايدن، هذا الانقلاب في المشهد لا يجب المرور عليه مرور الكرام، القضية هنا ليست عواطف، في السياسة دعونا نضع العواطف جانباً لأن كل قرار سياسي ممزوج بالعواطف هو قرار ساقط، السياسة أولاً وأخيراً هي الواقعية، من كان قبلَ أشهر يتحدث بانقلاب كهذا في المشهد، ربما إن لم يتهموه بـ«العمالة» فسيتهموه بالجنون، اليوم تجاوزنا مرحلــة العمالة والجنون إن تعاطينا بواقعيــةٍ مع ما يجــري أمامنــا لنسأل: أيــن نحــن من كل هذا الانقــلاب في المشهد؟!