رابع المستحيلات
| حسن م. يوسف
رغم أن اللامتوقع يخيفني مثل كل البشر، إلا أن توقي للجميل المختلف غالباً ما يدفعني للمجازفة بخيارات لم أتوقعها لقناعتي بأن الدرب الذي أعرفه محكوم بأن يفضي بي إلى الأماكن التي أعرفها فقط، وما أعرفه لا يجذبني، فتوقي يبقى بلا حدود لكل ما لا أتوقعه.
صحيح أنني اتخذت في حياتي قرارات غير متوقعة، يمكن وصفها بأنها حاسمة وموجعة، إلا أنني لست صارما ولا متخشباً، بل أستطيع أن أصف نفسي بالمرونة، لأنني كنت ولا أزال أرفض التواطؤ مع أخطائي، ولا أتردد في الاعتذار عنها علناً بمجرد اكتشافها. لكنني على الرغم من ولعي بغير المتوقع، وإقدامي عليه بين وقت وآخر، لم يخطر ببالي طوال السبعة والثلاثين عاماً الأخيرة من حياتي، ولو للحظة واحدة، أنه سيأتي يوم أقبل فيه أن أحمل عضوية اتحاد الكتاب العرب. لأن لي قصة أليمة مع هذه المنظمة.
في عام 1978، صدرت عن وزارة الثقافة بدمشق، مجموعتي القصصية الأولى «العريف غضبان» التي رسم غلافها الفنان عمر حمدي الذي اشتهر تالياً على المستوى العالمي باسم مالفا، له الرحمة والذكر العطر. خلال السنوات القليلة التي سبقت صدور الكتاب كنت أحد أكثر الأسماء إثارة للجدل في الوسط الأدبي السوري، إذ شاركت في مسابقات القصة الثلاث التي شهدتها الحياة الثقافية السورية في تلك الفترة وفزت بالجوائز الأولى فيها. كانت مجموعتي «العريف غضبان» تؤهلني لعضوية اتحاد الكتاب العرب، إذ كان يشترط بالمتقدم للعضوية آنذاك أن يكون قد أصدر عنواناً واحداً. في تلك المرحلة كنت بسيطاً، كما أحاول أن أبقى، وكنت لا أخفي انحيازي للعدالة والتقدم، لهذا تصور المحافظون في اتحاد الكتاب أن مياهي لن تصب في طاحونهم، فأشاعوا أنني شيوعي وصوتوا ضد قبولي.
اعتبر التقدميون رفض عضويتي بمثابة إهانة لهم فحرضوني على رفض القرار وبعد شيء من التردد وافقت على كتابة (اعتراض لمجلس الاتحاد) أملاه عليَّ الأستاذ (س) في القبو الذي كنت أقطنه، ثم أخذه وقدمه باسمي، لديوان الاتحاد، لكنه، لسبب ما، لم يحضر الاجتماع لا هو ولا التقدمي الآخر الأستاذ (م)! ونظراً لأن الأستاذ المستقل (و) امتنع عن التصويت فقد تساوى عدد الموافقين مع عدد الرافضين مما مكن رئيس الاتحاد (ع) من استخدام صوته المرجح لرفض قبولي.
اعتبر الأستاذ شوقي بغدادي ما جرى بمثابة فضيحة، خاصة وأنه كان يوجد في الاتحاد آنذاك أشخاص ليس لديهم نتاج ثقافي يذكر، وهذا ما دفعه لأن يكتب مقالاً شغل صفحة كاملة في جريدة الثورة بعنوان «قضية المواطن حسن م. يوسف» سرد فيه حقيقة ما جرى بالتفاصيل والأسماء، الأمر الذي جعل قادة الاتحاد يستشيطون غضباً فقرروا تجميد عضوية الأستاذ شوقي لفترة لا أذكر كم طالت!
صحيح أن الرئيس السابق لاتحاد الكتاب الأستاذ حسين جمعة وصف وضعي خارج الاتحاد بأنه لا يجوز، فقلت له: «رفضتموني فتى وأرفضكم كهلاً « والحقيقة أن الأيام رسخت قناعتي بأن جل خريجي كليات الآداب والصحافة لا يصبحون أدباء ولا صحفيين وأن عضوية اتحاد الكتاب لا تجعل من يتمتع بها كاتباً بالضرورة. صحيح أن الحياة أكرمتني بأكثر من خل وفي، إلا أن المستحيلات ظلت بالنسبة لي ثلاثة: الغول والعنقاء وعضوية اتحاد الكتاب العرب. لكن المستحيل الثالث سقط يوم الأحد الماضي أثناء تكريمي في افتتاح ملتقى القصة الأول في طرطوس، عندما قام الصديق المبدع نضال الصالح الرئيس الجديد لاتحاد الكتاب العرب بإبلاغي قرار المكتب التنفيذي بمنحي عضوية الشرف في الاتحاد. والحق أنني لم أتوقع أبداً أن يأتي يوم أقبل فيه بشيء كهذا! لكنني اكتشفت أن المستحيل الرابع هو أن أرد يد الصديق النبيل المبدع نضال الصالح عندما تمتد لي، فأنا عادة لا أرد أي يد وطنية شريفة فكيف لي أن أرد يد صديق مبدع خلوق نظيف القلب واليد والقلم، كنت قد وصفته في مقال لي في هذا الركن، عندما كانت حياته مهددة في حلب، بأنه «النضال الصالح الوحيد»؟
شكراً أخي الحبيب نضال، لقد كنت دائماً ممن يسندون قلبي المائل.