ثقافة وفن

سيرة الأسير المحرر الشهيد مدحت الصالح.. منارة للأجيال

| إسماعيل مروة

في تقديمها للكتاب تقول الأستاذة الدكتورة بثينة شعبان: «يروي لنا قصص الأجداد وقصص الأرض التي كانت مزروعة بالتفاح والكرز قبل الاحتلال الوحشي.. تتداخل مع كل هذا الجمال والذكريات العزيزة إجراءات الاحتلال البغيض في اعتقال الأب والأخ الأكبر، ومن ثم اعتقال مدحت نفسه لينضم إلى الأسرى.. إن ما يلفت النظر في رواية مدحت الصالح عن ممارسات الاحتلال مع الأسرى محاولة إسقاطهم أخلاقياً وعقائدياً ونفسياً.. إن ما يجب علينا فعله هو أن ندرك بعمق نقاط ضعف الاحتلال ونرد عليها بنقاط قوتنا، فهو يخشى تاريخنا وذاكرتنا وحضارتنا وتجذرنا في هذه الأرض، وعشقنا لترابها، ولكل ما تمثله.. من هذا المنظور المقاوم تقدم مؤسسة وثيقة وطن سيرة الأسير الجولاني المحرر الشهيد مدحت الصالح للأجيال لتتعلم من مسيرته..».

بهذه الكلمات من المقدمة العلمية الضافية أبدأ الحديث عن كتاب مختلف، فهو ليس مؤلفاً عن مدحت وما فعل من خلال شهود وأصدقاء، وليس سيرة ذاتية لغايات جمالية، وإنما هو شهادة وفق المنهج الذي وضعته مؤسسة وثيقة وطن، وشهادة أدلى بها الأسير المحرر الشهيد لوثيقة وطن وخبرائها، فجاءت في فصول خمسة: جذوة تكبر في قلب الفتى/ من الطفولة إلى الشباب/ ذاك الثائر أصبح أسيراً/ شمس الحرية/ نار المقاومة التي لا تخمد.

فهو شهادة شفوية مسجلة بصوت الأسير الشهيد، ومدونة في وثيقة وطن على أكثر من سبع عشرة ساعة قضاها الشهيد وهو يسرد قصة وطن، ومعاناة من احتلال، وقصة أسرة، ومعاناة أسر، وصبر الأسرى، وأفانين العذاب الذي مارسه الاحتلال الصهيوني ضد كل الأسرى ووالده وأخيه وهو ضمن هؤلاء الأسرى.. فالأسير الشهيد كان على موعد مع الشهادة، ولم يشأ أن يغادر الدنيا إلى ملكوت الشهداء إلا بعد أن يسجل شهادته للأجيال القادمة لتدلهم على همجية هذا العدو وطرائقه وأساليبه في محاولات التهويد واجتثاث الهوية والشكر لوثيقة وطن على اعتمادها التوثيق الآن، أي كلام لن يكون بمستوى ألم المقاوم.

أهمية التوثيق

لأي كتاب أهميته، وهذا الكتاب الذي تصدت له «وثيقة وطن» أهمية مضاعفة، فنحن أمام كتاب يروي سيرة سوري مختلف:

– ابن الأرض المحتلة.

– الأسير في سجون الاحتلال.

– الصحفي المقاوم كلمة وقولاً.

– الأسير المحرر.

– المحرر الشهيد.

فالشهيد مدحت صالح سيرة مقاومة وبطولة وأسر واستشهاد، لم يكن استشهاده مصادفة، ولكنه كان من الذين أزعجوا الاحتلال فاعتقله، وحين أيقن المحتل أن البطل لن يتغير سواء في الأسر أم في الحرية، استهدفه ليتخلص من مقاوم ومناضل غير عادي.. وما أزال أذكر الشهيد في مكاتب «الوطن» عندما كان الملحق الخاص بالجولان يتم إعداده وبأقلام أهل الجولان وكتابه، ومنهم مدحت صالح الذي أسهم مع زملائه في فضح المحتل الإسرائيلي ومحاولاته المحمومة لطمس الهوية العربية السورية لكنه عجز عن ذلك.

ولعل أهم ما في هذا الكتاب الشهادة سرده للحقائق التي عاشها بنفسه، ويعيشها أهلنا في الجولان وعدم ركونه للوصف، فمهما وصف الكتاب فلن يصلوا إلى مستوى ألم المكتوي بالنار وخاصة إن كان كالجولانيين الذين يتحدون المحتل بحب الوطن والأرض والتفاح والحياة، يقارعون بأنفسهم ويبذلون أرواحهم لوطنهم وهويتهم، وهم يعيشون الحياة، يعشقون، يتزوجون، ينجبون، يغنون، وهذا مما استرعى انتباه الأستاذة الدكتورة شعبان وهي تقدم لهذا الكتاب الشهادة.

علامات المقاومة والأسر

مما جاء في الكتاب على لسان الأسير المحرر الشهيد في شهادته التي أودعها الأجيال القادمة في الجولان وفلسطين وكل أنحاء سورية، ويؤكد تمسك الإنسان المقاوم بأرضه وجذوره مهما طال الاحتلال، «وروى لنا جدي عن أرض يملكها تقع على خط وقف إطلاق النار، كنا نراها عندما نقف على سطح البيت، فيحدثنا عن هذه الأرض، وبأنها كانت مزروعة بالتفاح والكرز وفيها بئر ومضخة مياه».

ومن السجن: «وسجن تلموند قريب من شمالي فلسطين، وقسم منه تحت الأرض، وهو شبه قبو، ووضعونا فيه، وبقينا لفترة لا بأس بها، لم يكن سجناً أميناً، فلا يوجد فيه سجناء أمنيون، وفيه فقط الأسيرات الأمنيات الفلسطينيات، ونحن كنا في قسم تحت الأرض يشبه القبو».

وعن دور إسرائيل فيما يجري في سورية يقول: «هناك كثير ممن يتفق معي في الرأي بأن لإسرائيل يداً منذ بداية الأزمة، وأن كل الذي حدث في سورية كان مخططاً له منذ أن بدأت في تونس ومن ثم ليبيا ومصر.. فإسرائيل هي المحرك الأساسي لكل ذلك، والاعتقال الثاني لصدقي المقت كشف إدخال السلاح والغذاء والدواء، وكيف يدخل المسلحون إلى الجولان المحتل والمستوطنات، ويجتمعون مع القادة الإسرائيليين وينسقون معهم، وهذا دون أدنى شك يدل على أن المستفيد الأساسي هو إسرائيل».

ويتابع الكتاب الوثيقة بعد انتهاء شهادة مدحت الصالح رصد ما تبقى وتسجيله على لسان رفيقة دربه التي رافقته رحلته الأخيرة، وسمعت عبارته التي يحب (سنرجع يوماً إلى حيفا) وشاركت التحضيرات لبيت الِأسرة والعودة.. لكن مدحت الذي صار يقلق العدو الصهيوني كان في دائرة الاستهداف ليتم اغتياله الآثم، ويرتقي شهيداً من شهداء الوطن.

الكتاب وثيقة مهمة، يحمل خصوصية الحديث الذاتي، ويدوّن حياة وطن في أقسى الظروف وأحلكها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن