يبدو أن مواسم الحصاد في الحقول السياسية الأوروبية، تختلف تماماً عن مواسم حصاد حقولها الزراعية، فحيث يبدأ حصاد الأخيرة مع بداية الصيف، يبدو أن ثمار السياسة الأوروبية تجاه روسيا وما يجري في أوكرانيا، قد أينعت وبدأ موسم حصادها ولكن ليس في بيادر كما هي العادة بالنسبة للمواسم الزراعية، وإنما في شوارع باريس وخاصة شارع الشانزلزيه وفي باحات الإليزيه، وفي شوارع لندن، وتحديداً في «داوننغ ستريت».
انخرط الاتحاد الأوروبي وبقوة في الصراع الدائر بين أوكرانيا وروسيا إلى جانب الأولى، وارتضى أن يكون رأس حربة أميركا في ذاك الصراع، وذهب إلى أقصى درجات العداء ضد روسيا، بفرضه سلسلة من العقوبات التي طالت في مجملها قطاع النقل والمال والنفط والعلاقات الدبلوماسية والكثير الكثير، دون أي حساب لعواقب ذلك وانعكاساته على الواقع في القارة العجوز، وهذا ما بدا لاحقا بشكل جلي، وكل ذلك بهدف فرض هيمنة القطب الواحد من قبل أميركا، وظناً من الجميع أنهم بذلك قادرون على إنهاء حقبة «روسيا- بوتين» كما كانوا قادرين سابقاً على إنهاء حقبة الاتحاد السوفييتي.
العنجهية الأوروبية الأميركية، إزاء موسكو، بدأت في عز ربيع أوروبا، إلا أنه ومع هبوب رياح الخريف، بالتزامن مع أزمة طاقة خانقة بفعل ردة فعل موسكو على العقوبات الأوروبية، أدرك المواطن الأوروبي أي شتاء ينتظره، مع تحذير الجهات الرسمية، وأصحاب الخبرة والشأن في مجال النفط بأن شتاء أوروبا القادم سيكون الأول من نوعه لجهة دخول القارة العجوز حالة من «العتمة والبرد» بفعل غياب الغاز والنفط الروسي، جراء الحماقة التي ارتكبها ساسة بلدانهم.
بفعل سياسة قادة أوروبا، فقد أينعت أولى ثمار تلك السياسة في فرنسا، عبر الارتفاع غير المسبوق لأسعار الطاقة بكل أشكالها، المشتقات النفطية والغاز والكهرباء، والمواد الغذائية والخدمات، ما ينعكس ارتفاعاً للتضخم الذي بلغ نسباً لم تعرفها فرنسا منذ أربعين عاماً، وبدأ التجهيز لموسم الحصاد السياسي في شوارعها، عبر إضرابات وتظاهرات شلت الحركة والاقتصاد والقطاعات الحكومية والمدارس والجامعات، تؤسس من خلال دعوات اليسار المعارض إلى إضراب عام، وبداية سقوط عهد إيمانويل ماكرون الذي يفتقر أصلاً للأكثرية المطلقة في البرلمان، ما يجعل الوضع بالنسبة إليه بالغ الخطورة والصعوبة، خاصة وأن ذكريات حركة «السترات الصفراء» لم تغب عن الأذهان، ويبدو أن الفرنسيين أرادوا من خلال خروجهم غاضبين إلى الشارع الرد على تحذير ماكرون في آب الماضي من أن أزمة الطاقة والاقتصاد، التي تواجه أوروبا على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية لم تنته بعد، وبأنها «ثمن حريتنا وقيمنا»، لتكون الرسالة أن حريتهم وقيمهم في تمتعهم بشتاء دافئ وحصولهم على حاجاتهم بأسعار منخفضة.
الصورة ذاتها تنعكس في لندن، ولكن بوضوح أكثر، لدرجة باتت رئيسة الوزراء البريطانية ليز تراس على حافة الهاوية، حيث ذكرت صحيفة «ديلي ميل» البريطانية أن أكثر من 100 عضو في البرلمان ينتمون إلى حزب المحافظين الحاكم مستعدون لتقديم رسائل بسحب الثقة منها، إلى رئيس لجنة حزب المحافظين التي تنظم الانتخابات غراهام برادي.
لا تقتصر معاناة تراس عند كبواتها الاقتصادية، ولا في ملل أنصارها من قراراتها المتسرعة، بل إن التحدي الأكبر ينتظرها على أبواب الشتاء، حال استمرت في منصبها، وذلك مع ارتفاع أسعار الطاقة، رغم أن بريطانيا لا تعتمد كثيراً على استيراد الغاز من روسيا، فهو لا يشكل أكثر من 4 بالمئة من احتياجاتها، لكنها تعتمد على استيراد الغاز من النرويج الذي قد يتم تعديل وجهته لسد احتياجات أوروبية طارئة في الشتاء، الأمر الذي دفع شبكة الكهرباء الوطنية إلى التحذير من أن بريطانيا قد تواجه انقطاعاً مخططاً للتيار الكهربائي لمدة ثلاث ساعات عن المنازل والشركات هذا الشتاء إذا لم تستطع استيراد الكهرباء من أوروبا.
قد يكون ما تشهده كل من فرنسا وبريطانيا من أحداث، ليس سوى رأس جبل في بحر، أو غيض من فيض مما هو آت، وليصبح قادة أوروبا أمام حقيقة، وإن كابروا على الاعتراف بها، وهي أن العقوبات التي فرضوها على روسيا لم تكن سوى حبل لُفّ حول أعناقهم، وكمن أطلق الرصاص على قدميه، ليعكس تصريح رئيس الوزراء المجري فيكتور أوروبان قبل يومين الحقيقة التي يصر قادة أوروبا على نكرانها بقوله: «لا يمكننا طمر رؤوسنا في الرمال مثل النعام، علينا أن نواجه الواقع، إذا استمر هذا الوضع، فإن العقوبات ستهز أوروبا، سوف يركع اقتصاد القارة، وقد يكون الناس في خطر ويبدو أننا بحاجة للتحضير لحرب طويلة الأمد».