ثقافة وفن

وقّع كتابه «السياسة السورية الخارجية» الصادر عن دار «بستان هشام» … د. بشار الجعفري: سورية مفتاح رئيس يتحكم بمصير المخططات الغربية في المشرق العربي والإقليمي وبطبيعة الصراع مع إسرائيل

| وائل العدس - تصوير: طارق السعدوني

وقع نائب وزير الخارجية والمغتربين د. بشار الجعفري الذي سيتسلم مهامه قريباً سفيراً لسورية في موسكو كتابه «السياسة السورية الخارجية» الصادر عن دار «بستان هشام» يوم أمس في مكتبة الأسد الوطنية ضمن فعاليات معرض الكتاب السوري.

ويقع الكتاب في 462 صفحة من القطع المتوسط، ويلخص تاريخ السياسة السورية الخارجية من عام 1946 حتى عام 1982. وأهدى د. الجعفري الكتاب إلى زوجته قائلاً: «أهدي هذا الكتاب إلى زوجتي العزيزة.. رفيقة درب العمر.. ورحلة الحياة.. ومشوار الأيام».

فترة بارزة

وفي كلمته أمام الحضور، أكد د. الجعفري أن الكتاب يعالج فترة بارزة في تاريخ سورية الحديث تداعت فيها الأحداث بشكل مكثف للغاية في منطقتنا العربية وفي العالم، وكان لدمشق فيها الكلمة الفصل في تحديد العديد من السياسات والملفات والأجندات، والمقصود بالضبط الفترة من عام 1946 أي بداية الاستقلال السوري الثاني (إذا افترضنا أن هزيمة المشروع العثماني على أبواب دمشق في عام 1918 هو عيد الاستقلال الأول الذي لم يكتمل بعد صدور قرار المؤتمر السوري بإعلان الاستقلال في عام 1920 وما تلاه من موقعة ميسلون الخالدة) ولغاية عام 1982، وهو العام الذي شهد غزواً إسرائيلياً مدعوماً مباشرة من الغرب لبيروت، وتداعي سورية لصد هذا الغزو بمفردها (بعد إخراج السادات لمصر من معادلة التوازن الإقليمي وإدخال صدام حسين العراق في أتون الحرب العبثية ضد إيران)، وإطلاق الرئيس حافظ الأسد لمفهوم التوازن الإستراتيجي السوري إزاء إسرائيل.

وتساءل: لكن لماذا البدء بعام 1946؟ ثم أجاب: لأن هذا العام شهد جلاء آخر جندي فرنسي عن الأراضي السورية مع عدم الارتباط بأي معاهدة تبعية أو اتفاق ثنائي مقيّد للسيادة مع قوة الاحتلال الفرنسي. وطبعاً يعد هذا الجلاء بمنزلة تراكم نضالي تاريخي جمع بين النضال المسلح والعمل السياسي منذ عصر النهضة العربية الذي بزغ في سورية وأسفر عن إسقاط الدولة العثمانية على أبواب دمشق في عام 1918، ويسعفنا التاريخ في فهم أفضل لدور سورية في إنهاء الدولة العثمانية عندما نذكر أن الدولة العثمانية قد بدأت بهزيمة الممالك في معركة مرج دابق في حلب عام 1516 وانتهت في معارك التحرير فوق الأرض السورية في عام 1916، أي في العام نفسه ولكن بعد مرور 400 سنة من الزمن.

وأضاف: كما أن عام 1946 مهم سياسياً لأنه شهد تتويجاً للاستقلال السوري من خلال تأسيس الجيش العربي السوري الذي دخل أول صدام حربي واسع مع الداعشية الصهيونية في فلسطين بعد ذلك بعامين اثنين فقط، أي في عام 1948. ويشير الخط البياني للسياسة الخارجية السورية خلال تلك الفترة إلى انتقال سورية الحديثة من مرحلة كونها ساحة للصراع والتنافس إقليمياً ودولياً إلى مرحلة كونها لاعباً أساسياً فوق رقعة الشطرنج، وهو تمايز تصدى له بدقة تلفت الانتباه الباحث البريطاني باتريك سيل في كتابيه الشهيرين «الصراع على سورية» ثم «الصراع على الشرق الأوسط».

وأشار د. الجعفري أنه بطبيعة الحال شهدت سورية خلال تلك السنوات أحداثاً مهمة للغاية بداية بسلسلة الانقلابات العسكرية بعد الاستقلال مباشرة، ثم التصدي لحلف بغداد ووصول التوتر مع تركيا إلى ذروته، الأمر الذي أوصل البلاد إلى خيار الوحدة الاندماجية مع مصر الناصرية، مروراً بثورة الثامن من آذار عام 1963 ووصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى سدة الحكم، ثم الحركة التصحيحية في عام 1970 بقيادة الرئيس حافظ الأسد وحرب تشرين التحريرية في عام 1973، ووصولاً إلى «الحرب اللا أهلية» في لبنان والغزو الإسرائيلي للبنان وما ترافق ذلك مع الحرب العراقية- الإيرانية.

السمة البارزة

وقال د. الجعفري: إن الأهمية التي تحتلها سورية في قلب المشرق، إضافة إلى الدور الشمولي لدبلوماسيتها النشطة ذات الاتجاهات المتعددة على الصعيد الدولي، كل هذا وذاك يسوّغ الجهود المبذولة من أجل فهم أفضل لمنظور هذا البلد السياسي من خلال تحليل مفصّل للدوافع التي تحدد المبادئ المرجعية الموجهة لسياسته الخارجية الحديثة، فالسياسة الخارجية السورية اليوم تقوم أساساً على حرمة القانون الدولي وقدسية المبادئ والتصدي للاستعمار والعدوان والاحتلال حيثما كانوا.

وأوضح أن السمة البارزة في السياسة السورية الخارجية تكمن في عدم المهادنة مع تلك المظاهر السلبية في العلاقات الدولية، وهي سمة مكلفة للغاية ولكنها من ثوابت العمل الوطني والقومي دبلوماسياً وسياسياً، إضافة إلى أنها لا تعاني من أي عقدة نقص تجاه أي دولة أخرى مهما بلغ وزن تلك الدولة السياسي وثقلها الاقتصادي وحجمها الديموغرافي وسطوتها العسكرية.

النهج الإستراتيجي العام

وشدد د. الجعفري على أن إسقاط الحاضر على الماضي القريب (الفترة قيد البحث) يؤكد وجاهة المنطلقات الآنفة الذكر لمعالم السياسة الخارجية السورية، ومع أننا سنأتي لاحقاً على قراءة تحليلية استكمالية للمرحلة من 1982 ولغاية أيامنا الحالية، إلا أن استقراء ورصد معالم السياسة الخارجية السورية في كلتا المرحلتين يظهر استمراراً وتكاملاً في النهج الإستراتيجي العام على الرغم من ظهور بعض التمايزات على الصعيد التكتيكي، وهو ما يفسر المرونة التي تحير بعض العواصم والكثير من السياسيين والدبلوماسيين المهتمين بالشأن السوري.

وحدة سياسة قائمة

وكشف د. الجعفري أن سورية والتاريخ صنوان، لا بل توءمان لا ينفصلان عن بعضهما بعضاً، وتشهد الأحداث والأبحاث على أن سورية قد شكّلت طوال آلاف السنين وحدة سياسية قائمة، وأن الأرض السورية هي الوحيدة في العالم التي تضم في جيناتها حتى أيامنا هذه مدناً شمال حلب يطلق عليها علماء الآثار والتاريخ اسم «المدن المنسية»، ويعود وجودها إلى آلاف السنين الغابرة، ومن منا لا يعرف أن دمشق أقدم عاصمة مأهولة في العالم يرجع وجودها إلى نحو 10 آلاف عام.

وتابع: لقد حتّم هذا العمق التاريخي الضارب في نسيج الأحداث وتضاريس الجغرافيا أن يكون الدور السياسي لسورية بمستوى هذا العمق الذي ترك بصماته الواضحة على صيرورة الزمان والمكان، ونظراً لمكانة هذا الامتداد التاريخي للحراك السياسي السوري على رقعة الجغرافيا الإقليمية والعالمية (بغض النظر عن المساحة الحالية للبلاد وثقلها الديمغرافي الآني ومواردها الاقتصادية الراهنة) وهو الحراك الذي وصل في يوم من الأيام الصين بالأندلس، فإن دراسة التجربة السياسية السورية تصبح مادة دراسية مهمة جداً للباحثين والمهتمين في دوائر صنع القرار السياسي في العالم، ومع ذلك فإن المنظور الشامل لهذه التجربة يستدعي حكماً عملاً موسوعياً يغطي كامل المشهد الجيوليتيكي السوري على مدى العصور المتلاحقة وهو أمر نتركه لقادم الأيام.

المشروع التخريبي

وشدد د. الجعفري أن تداعيات المشروع التخريبي الذي استهدف سورية منذ بداية ما اصطلح على تسميته «الأزمة السورية» أثبتت أن سورية مفتاح رئيس يتحكم بمصير المخططات الغربية في المشرق العربي والإقليمي وبطبيعة الصراع مع إسرائيل، أهم مشروع غربي في منطقتنا العربية، ولذلك يلاحظ المتابع أن شراسة تلك المخططات الغربية تجاه سورية لا سابق لها ولا مثيل لها في أي مخططات أخرى رُسمت ضد حكومات دول أخرى تناهض سياسات الغرب وتناصبها العداء، وكأن المسألة تصفية حسابات قديمة جديدة مع دمشق.

وأوضح هذا المنظر يؤكد أن دمشق عصية على مشاريع الغرب وإسرائيل وأن تحصين البلاد من مخاطر تلك المشاريع يشكّل أولوية الأولويات في السياسة الخارجية السورية، الأمر الذي يجعل تكلفة النزعة الاستقلالية في السياسة السورية مرتفعة جداً ولاسيما أن العواصم الغربية قد استنبطت خلال السنوات الثلاثين الأخيرة ومنذ تفكيك الاتحاد السوفييتي وانهيار الكتلة الشرقية تحديداً، آليات ضغط اقتصادية ومالية مؤلمة لم تكن تلجأ إلى استخدامها في السابق، والمقصود طبعاً هو فرض الإجراءات القسرية الاقتصادية الأحادية الجانب (العقوبات الاقتصادية والمالية) إلى جانب محاولات العزل السياسي، وفبركة القلاقل والاستثمار الواسع في استخدام سلاح الإرهاب وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي وتوظيف المؤسسات والمنظمات والآليات الدولية للتشهير بالدولة السورية بهدف النيل من الدول الرافضة لمنطق الهيمنة الغربية على مقدرات العالم، ومن بين هذه الدول سورية بطبيعة الحال.

وأشار إلى أن منظري ذاك المنطق الغربي التدخلي أفصحوا عن قراءتهم له مبكراً عندما نشر كل من صموئيل هنتيغتون وفرانسيس فوكوياما، وكلاهما أميركي، كتابيهما المعنونين «صراع الحضارات» و«نهاية التاريخ» مطلع التسعينيات من القرن الماضي، حيث اعتبرا أن التاريخ القديم متعدد القطبية قد انتهى بتفكيك الاتحاد السوفييتي وأن التاريخ الجديد قد بدأ بانتصار الولايات المتحدة الأميركية في الحرب الباردة وبفرض عصر هيمنة القطب الواحد، وهي كلها معطيات أثبتت الأحداث الأخيرة، لاسيما في أوكرانيا وسورية، هشاشتها وعدم صمودها أمام الوقائع الجيوبوليتيكية ولاسيما مع بروز الصين كقطب دولي مهم ومع استعادة روسيا الاتحادية لمكانتها العالمية كقطب آخر يحسب حسابه.

وختم د. الجعفري أن فهم السياسة الخارجية السورية في المرحلة من 1946 ولغاية 1982 يؤسس لاستيعاب الكثير من المعطيات المتصلة بطبيعة السياسة الخارجية في المرحلة التي تلتها وصولاً إلى أيامنا هذه، حيث ازدادت التحديات كثيراً وتوسعت الجبهات والمخاطر وتداخلت الملفات وتغيرت المواقف في بعض العواصم بشكل انقلابي مذهل.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن