من دفتر الوطن

نظام التفاهة القديم

| حسن م. يوسف

كما يندد الفاسد بالفساد كي ينفيه عن نفسه يلذ لبعض (الناس) أن يجتزئوا كلام الكاتب آلان دونو أستاذ الفلسفة في جامعة كيبيك الكندية كي يعلنوا انتصار التفاهة في العالم برمته لتبرير استسلامهم لتفاهاتهم الشخصية. وذلك يعاكس تماماً ما أراده المفكر دونو من خلال كتابه: «نظام التفاهة» إذ إنه يدعوننا لمقاومته بدلاً من الاستسلام له. فدونو ناشط معروف بمحاربة الرأسمالية المتوحشة، وقد أحدث كتابه «كندا السوداء: النهب والإفساد والإجرام في إفريقيا» الذي صدر في عام 2008 ضجة كبرى لا في كندا وحدها بل في العالم.

صدر كتاب نظام التفاهة (Mediocracy) عام 2017 ومصطلح (ميديوكراسي) يقصد به «النظام الاجتماعي الذي تكون الطبقة المسيطرة فيه هي: «طبقة الأشخاص التافهين حيث تكافأ التفاهة والرداءة عوضاً عن الجدية والجودة».

يصنف كتاب آلان دونو بأنه من النوع المزعج فكرياً فهو يقول بلهجة استفزازية: «لا تقدم لنا فكرة جيدة فآلة إتلاف الورق ملأى بها سلفاً… «لقد تغير الزمان،… وتبوأ التافهون السلطة».

يوضح دونو برصانة أقرب إلى الكوميديا السوداء كيف مدت التفاهة أذرع سيطرتها في كل الاتجاهات وفي مختلف الميادين. فقد تنحى المثقف والحكيم والعالم، ليحل محله الخبير والاختصاصي والبروفسور. للوهلة الأولى قد يبدو الأمر مجرد اختلاف بسيط في التسمية، لكنه ليس كذلك على الإطلاق، فالمثقف والحكيم والعالم ينشدون الحقيقة ولا يخضعون إلا لأصوات ضمائرهم، مهما تعرضوا للترغيب والترهيب. أما الخبراء والاختصاصيون والأكاديميون فغالباً ما يبيعون خبراتهم وضمائرهم لأصحاب المليارات الذين يدفعون لهم كي يخدموا مصالحهم في السوق الذي يتحكمون به.

يرى دونو أنه لم يعد من المهم أن يكون المرء مبدعاً وموهوباً حتى يتسنى له الصعود في الدرجات الأكاديمية، فالمهم أن «يلعب اللعبة»، ويتقن فنون التملّق والتزلّف والاحتيال والرضوخ لنظام التفاهة. ويرى أن «الخبير… يمثل النموذج المركزي للتفاهة». لأنه هو الشخص الذي يستطيع أصحاب المال من خلاله نقل تعليماتهم، بما يسمح لهم بترسيخ نظامهم. «كما يرى أن نظام التفاهة يشجعنا: «… بكل طريقة ممكنة، على الإغفاء بدلاً من التفكير، النظر إلى ما هو غير مقبول وكأنه حتمي، وإلى ما هو مقيت وكأنه ضروري». فنظام التفاهة يسمح لأثرياء العالم الذين يمثلون واحداً بالمئة من السكان بأن يحتكروا نصف خيرات كوكبنا.

يقول دونو بتهكم أسود: «لا لزوم لهذه الكتب المعقدة. لا تحمِلْ نظرة ثاقبة، وسِّعْ مقلتيك، أرخِ شفتيك، فكر بميوعة وكن قابلاً للتعليب. لقد تغير الزمن. فالتافهون قد أمسكوا بالسلطة»!

ودونو في تهكمه هذا يدعو للتمرد لا للاستسلام. والحق أن بديع الزمان الهمذاني الذي توفي شاباً عام 1007م أي قبل ألف وخمسة عشر عاماً قد سبق دونو إلى هذا الطرح في مقاماته المدهشة، ففي المَقَامَةُ العراقية يقول شعراً على لسان بطل مقاماته النصاب أبي الفَتْحِ الإسكندري: «بُؤْساً لِهَذا الزَّمَانِ مِنْ زَمَنٍ/ كُلُّ تَصَارِيفِ أَمْرِهِ عَجَبُ / أصبح حرباً لِكُلِّ ذِي أَدَبٍ / كَأَنَّمَا سَاءَ أُمَّهُ الأَدَبُ»

وفي المَقَامَةُ القِرْدِيَّةُ يقول: «الذَّنْبُ لِلْأيام لاَ لِي / فَاعْتِبْ عَلَى صَرْفِ اللَّيالِي/ بِالحْمْقِ أَدْرَكْتُ المُنَى/ وَرَفَلْتُ فَي حُلَلِ الجَمَالِ». وفي المَقَامَة السَّاسَانِيَّة يقول: «هَذا الزَّمَانُ مَشُومُ / كَمَا تَراهُ غَشُومُ / الحُمْقَ فِيهِ مَلِيحٌ / والعِقْلُ عَيْبٌ وَلُومُ / والمَالُ طَيْفٌ، ولكِنْ / حَوْلَ اللئَّامِ يحومُ».

نعم يا سيد دونو، نظام التفاهة لم يبدأ البارحة، بل هو قديم قدم التافهين!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن