قضايا وآراء

الشعب الذي لن يموت

| محمد نادر العمري

على الرغم من كل السياسات الصهيونية المتبعة حتى قبل قيام الكيان في عام 1948، والهادفة للسعي نحو تهجير الشعب الفلسطيني وتصفية حقوقه واتباع ما يلزم من إجراءات إغرائية أو تهديدية على مدى عقود من الزمن لدفع الأجيال اللاحقة للقبول بالأمر الواقع والتخلي عن حقوقهم أو نسيانها، إلا أن كل المحاولات لم تر النور ولم تصل لمبتغاها من خلال تبني هذه الإجراءات على المستويات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية وحتى الديمغرافية لجعل الأجيال الفلسطينية اللاحقة للجيلين الأول والثاني اللذان شهدا بداية إقامة الكيان الصهيوني ونهجه لأبشع صور الإرهاب والعنصرية في اتباع إجراءات قسرية ما زالت قائمة وتتطور، من تصفيات جماعية واعتقالات وسلب الحقوق وهدم المنازل وسرقة الأراضي وغيرها الكثير التي لم ترهب الأجيال الجديدة، حتى إن صحيفة «مكور ريشوف» التابعة للتيار اليميني الصهيوني أقرت في تقرير نشرته في شهر آذار 2021، بحقيقة فشل جميع الجهود للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بفرض سيطرتها وتوسيع دائرة الأمن داخل الأراضي المحتلة وضمن محيطها، وركزت الصحيفة على أن عملية غسل الدماغ للأجيال الثالثة والرابعة والخامسة من الشعب الفلسطيني فشلت بجدارة، والدليل على ذلك يبرز في تصاعد العمليات التي تنفذها هذه الأجيال على الرغم من كل السياسات المتبعة، حتى بات الواقع المعاصر يفرض على الحكومات الإسرائيلية والمستوطنين مواجهة غير اعتيادية مع الأجيال الشرسة التي لم تعاصر الحقبة السابقة ولكنها تعلمها بشكل كامل، حقبة نشوء الكيان وتطوره، ولعل آخر صور هذه المواجهة الشرسة التي تنفذها الأجيال الجديدة في مدن ومناطق الضفة الغربية، ولاسيما في مخيم جنين ونابلس وغيرها من المناطق التي تشهد حراكاً شبابياً غير منظم ولا ينتمي لأي خلفية أو فصيل ولا يتبنون أي إستراتيجية سوى المقاومة واسترداد الحقوق، ولتأكيد ذلك يمكن الاستناد لعدة مؤشرات إستراتيجية وتكتيكية:

أولاً- مسار المقاومة والعمليات الفدائية لم يتوقف منذ الانتداب البريطاني وحتى اليوم، بل على العكس ازداد، وتمكنت الأجيال اللاحقة من تطوير العمل المقاوم بشكل أكثر تنظيماً من حيث الهيكلية وأكثر تأثيراً من حيث الفعالية وهذا يبرز في تنامي قوة حركات المقاومة في قطاع غزة.

ثانياً- 100 بالمئة من العمليات الفدائية المقاومة التي حصلت ضد الكيان الصهيوني داخل الأراضي المحتلة منذ بداية العام 2022 وحتى إعداد هذه المقالة، نفذها مقاومون شبان دون السن 27 عاماً، وبأدوات مقاومة بدائية أو إبداعية متطورة في التنفيذ والتخطيط كالطعن والدهس وإطلاق الرصاص وزرع العبوات الناسفة.

ثالثاً- أكثر من 69 بالمئة من المعتقلين في السجون الصهيونية هم شبان دون السن 30 عاماً، ما يؤكد حقيقة توارث القضية والدفاع عنها من جانب وعدم قدرة المحتل من خلق واقع جديد من جانب آخر.

رابعاً- تطور العمل المقاوم وأدواته وإخراجه من نطاق الأساليب التقليدية للحرب السيبرانية أو صراع الأدمغة كرسته نخبة مقاومة متعلمة وشابة هادفة لخلق قواعد اشتباك جديدة.

هذه العوامل وغيرها، دفعت وسائل الإعلام الإسرائيلية للتأكيد أن هذه العمليات الفدائية التي يشنها شبان فلسطينيون أدت لإسقاط «أسطورة تفاخر» المؤسسات الأمنية والعسكرية وأجهزتها الاستخباراتية التي فشلت في قمع هذه العمليات وكشفها ومنع حصولها، كما أنها أسقطت «بجاحة» رؤساء الحكومات المتعاقبين والشخصيات والأحزاب السياسية الهادفة فقط للوصول للسلطة أو الحفاظ عليها، إذ إنه ومنذ تبني مشروع «بوتقة الانصهار» التي طرحها بن غوريون بهدف دفع اليهود الشرقيين للتخلي عن ثقافتهم واندماجهم ضمن المنظومة للكيان، والمنشأة على القواعد والعادات الغربية، تضمن جزء منها تشجيع العرب الفلسطينيين أو ما يعرف بـ«عرب 48»، للانخراط ضمن دولة الاحتلال واستبدال هويتهم ومعتقداتهم كبداية للتخلي عن حقوقهم وغسل دماغهم، إلا أن ما كان يخطط له بن غوريون وغيره من الساسة الصهاينة من مشاريع لتذويب القضية عبر الرهان عن التخلي عن الحقوق عبر تبدل الأجيال مع مرور الزمن اصطدمت بحائط من الأوهام، ما شكل صدمة مفجعة للصهاينة ونخبهم واستراتيجياتهم، وهو ما أكده المحاضر بقسم علم الاجتماع والأنثروبولوجيا بجامعة «بار إيلان» باروخ شيموني، في بحثه المعنون: «محددات الأمن القومي الإسرائيلي في القرن الحادي والعشرين»، بقوله: إن جيل المؤسسين الأوائل لإسرائيل وهم: ديفيد بن غوريون، ومناحيم بيغن، وإسحاق رابين، والأجيال التي خلفتهم من بنيامين نتنياهو وإيهود بارك، وأريئيل شارلون وصولاً للمسؤولين الجدد، لم ينجحوا في تأمين متطلبات الأمن القومي الإسرائيلي، حتى إن مقاربة الصراع تحولت لمصلحة الفلسطينيين الذين لم يتخلوا عن حقوقهم على الرغم من اتباع إجراءات عقابية من حصار واعتقال، كما أن الأجيال الجديدة خارج فلسطين لم يتخلوا عن حقوقهم التي يتوارثون الدفاع عنها والمطالبة بها، سواء داخل المخيمات أم في الدول المتقدمة.

ومن أبرز الصور المقاومة التي أذهلت العقلية الأمنية الإسرائيلية وأظهرت مدى تصدعها، تتجلى فيما شهدته المدن المحتلة خلال عملية «سيف القدس» عبر تحرك مواطني 48، الذين كرسوا واقعاً جديداً دفعت بالمسؤولين الصهاينة وفي مقدمته رئيس دولة الاحتلال للقول إن كيانه بات في دائرة خطر الحرب الأهلية، وهو ما يعني رفض شعبي فلسطيني للتخلي عن حقوقه على الرغم من الإغراءات المقدمة له للاندماج بالكيان المحتل.

لم تتوقف هذه التطورات عند حد تطور أشكال المقاومة وتنوع أساليبها من قبل الأجيال الجديدة، بل طالت تأثيرها لتشمل دعم وتشجيع وتبني ثقافة المقاومة على الرغم من التبعات السلبية التي تفرضها حكومات الاحتلال على كل من يتبنى هذا النهج، إذ باتت عمليات «عرين الأسد» في الضفة تؤرق المؤسسات الرسمية والمختصين الأمنيين، لكونها حركة مقاومة، جديدة النشأة، ولا تتبع لأي حزب، وبإمكانات وخبرات قليلة ولكنها تحدث فعلاً مؤثراً، حتى إن بعض التقديرات الاستخباراتية الأمنية الإسرائيلية ترجح أن معظم عناصرها وقادتها هم شبان دون سن الـ37.

إن التأكيد على مسار الدعم المساند لنهج المقاومة من قبل الأجيال الفلسطينية الجديدة، يتمثل فيما أقدم عليه شبان فلسطينيون في مخيم شعفاط من حلق رؤوسهم بشكل كامل لدرجة الصلع، وذلك لإرباك الأجهزة الأمنية الصهيونية وتضليلها في محاولتها البحث عن عدي التميمي منفذ عملية الهجوم على الحاجز العسكري في مدخل المخيم وعدم السماح لهذه الأجهزة من الوصول له عبر تقليد حلاقته وشكله، وذلك قبل تنفيذه عملية ثانية أدت لاستشهاده، وهو ما يعيدنا للفكر المقاوم والاحتضان الشعبي له في مرحلة الانتداب عندما أقدم الشعب الفلسطيني على ارتداء الكوفية عوضاً عن الطربوش، لتضليل قوات الانتداب في ملاحقة المقاومين.

إنه موروث مقاوم لهذا الشعب الذي من المؤكد لن يموت ولن يموت حقه مع تبدل أجياله وإن تخلى عنه كل الكون، ورحم الله نزار قباني عندما قال: «كل ليمونة ستنجب طفلاً ومحالٌ أن ينتهي الليمون».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن