ثقافة وفن

«الموت بين البيروقراطية والمصالحة السياسية».. تجاوز المحمول الفكري المسلم به عن جائحة كوفيد-19

| مايا سلامي

صدر عن دار نينوى للنشر والتوزيع دراسة بعنوان «الموت بين البيروقراطية والمصلحة السياسية»، تأليف د. تهامي العبدولي، تقع في 304 صفحات من القطع الكبير، وتتناول هذه الدراسة جائحة كوفيد-19 كحدث متصل بالسياسة والتي حولت الكائن من فاعل في حياته ومستقبله إلى مجرد متفرج لا حيلة له في القيام بأي شيء، وأصبحنا صورة قبل ثقافية حيوانية نرتد ساعة الخطر إلى ضروراتنا البيولوجية، نقتتل من أجل القوت واللقاح، نصارع من أجل البقاء ضد الآخر الإنسان أي ضد أنفسنا وكأننا نعود لنأكل ذواتنا. فحدث الموت بين البيروقراطية والمصلحة السياسية كما حدث بشكل مروع لأن الموظفين البيروقراطيين صاروا مرتزقة وجعلوا النظام الإداري وقفاً على مصالحهم ولأن السياسيين وهم الوجه الآخر للارتزاق جعلوا مناصبهم مداخل إلى ممارسة سلطة تستهدف ضمان استمرارية المصلحة حتى حجبت الوظيفة بالسلطة البيروقراطية وبسلطة المصلحة السياسية. وفي هذا الحيز الزمني من عصرنا قيادة العالم أحادية كانت أم متعددة الأطراف لا تؤدي وظيفتها في حدود مربع الوظيفة وتمارس السلطة بكل سوءاتها وخطاياها، نكتشف أننا نئن من وطئة أربع جوائح: كوفيد-19 والبيروقراطية والمصلحة السياسية والنظام العالمي الجديد، والجامع بينهما تلك السلطة القاتلة.

دراسة بإمعان

ويبحث الكاتب في بداية هذه الدراسة بإمعان في ظروف جائحة كوفيد-19، فيقول: «ليس علينا الاكتفاء بالملاحظة البسيطة عند المراقبة عن كثب بل علينا التفكير علمياً في الحدث وسياقه موضوعياً في حدود مسوغات العلم ليس غير، وهنا علينا أن نؤرخ بشكل دقيق ومنهجي وأن نسافر داخل الجائحة بحالة نفسية روحية وذهنية فكرية، وأن نؤول تأويلاً صحيحاً وأن نفكر فيما ظهر أنه يحكم العالم في وحدته وتنوعه وتشظيه، وأن نضع في الحسبان أنها حدث في التاريخ والاجتماع عارض ومتكرر له دور تعديلي طبيعي فيما سمي وهماً (المدينة العالم) أو (العالم المدينة) ولعله كان ضرورياً للعالم لما أفضى إلى أزمة كبيرة هي نتيجة وسبب في الآن نفسه، نتيجة لواقع متدهور أصلاً وسبب لتعديل ما يجب تعديله».

ويجد أن هذه الجائحة تتجاوز مفهوم الحدث المرتبط بالزمان والمكان، لذلك يحسن فهمها على أنها تطرح أسئلة حول السلطة السياسية وتسقط أقنعة أنظمة بعينها وساسة فاعلين في العالم وعلى أنها تتصل بمنطق السلوك السياسي ودورانه مع الاجتماع والاقتصاد والتحولات التي تخلقها الأحداث التاريخية العارضة، كبيرة كانت أم صغيرة خلال مراحل مهمة وحاسمة في تاريخ الدول.

أسباب الجائحة

في هذا الجانب يتطرق د. تهامي إلى الأسباب التي جعلت الجائحة تتمكن من العالم والتي قد يعن على بال البعض تصنيفها بين الأسباب المباشرة وغير المباشرة أو الأسباب الظاهرة والخفية ولكنها عندنا جميعاً كانت أسباباً مباشرة ظاهرة لو تم تدبرها لما كان الموت عاماً، وأهمها: التنقل، تفكك المجتمعات، البيروقراطية والتراخي، إغفال المراقبة والمتابعة. وفي شرحه لهذه الأسباب وكيفية تأثير كل منها، يذكر أن: «أزمة جائحة كوفيد-19 تولدت من نظامين فاسدين أحدهما سياسي والآخر اقتصادي فتجلت فيها المفسدتان الكبريان السياسية والاقتصادية، فبدت في ظاهرها تقنية لكنها في بعدها السياسي تعبير عن انعدام الثقة في الحكام وغياب الاقتناع بهم لما اكتشفت الشعوب أنها لم تختر الأفضل والمناسب. لذلك سار كثيرون في طريق تحدي مؤسسات السلطة المعاصرة».

كما يبين أنه حين يكون التفكك الاجتماعي ملمحاً عاماً للمجتمعات في زمن معين وتحل جائحة من الجوائح أو كارثة تبرز الأنانية عند الناس إذ يزدادون إيغالاً في فردانيتهم ويغتالون داخلهم طبيعتهم الاجتماعية المبنية على التضامن والتعاون ويتنصلون من الآخر «السّميّ الاجتماعي» ليعيشوا علة اللامبالاة وعدم الالتزام الاجتماعي.

تعزيز المصالح

ويلفت الكاتب في دراسته إلى دور جائحة كوفيد-19 في تعزيز المصالح السياسية للدول العظمى في هذا العالم المتعدد الأطراف الذي تكثر فيه نزعات الهيمنة وبسط السيطرة، فيقول: «بسبب الجائحة وطوال سنة 2020 بدت للمتابعين علامات دالة على تبلور صيغة جديدة لنظام ما وعلى أن النظام العالمي الجديد الذي أشرنا إليه سابقاً بدأ يتآكل ويتفتت. وفي سياق عالم متعدد الأقطاب قد تتشكل ثلاثة أنظمة واقعية مختلفة في المستقبل القريب: نظام أقل قوة ونظامان قويان محدودان أو مقيدان، أحدهما تقوده الصين والآخر تقوده الولايات المتحدة، وسيشرف النظام الأضعف على اتفاقيات التسلح وتحسين وضع الاقتصاد العالمي وتغير المناخ والتعاون بين الدول، وأما النظامان الآخران فسيتنافسان في المجال الاقتصادي والعسكري بشكل كبير».

ويشير إلى أنه في هذا العالم المتعدد الأطراف وهو مطمح الصين تصريحاً وممارسة يجب الانتباه إلى أنها تخفي مصالحها مثلها مثل الولايات المتحدة التي تخفي مصالحها خلف مشعل تنمية الديمقراطية، مؤكداً ضرورة توقع حدوث صراعات بين الطرفين القويين، ومما لاشك فيه أنها ستواصل صعودها المثير للإعجاب وستدخل في سباق المنافسة الشديدة وهي السمة المركزية للسياسة الدولية في القرن الحادي والعشرين. وستؤدي تلك المنافسة إلى ظهور أنظمة محدودة تسيطر عليها الصين والولايات المتحدة وستكون التحالفات العسكرية أحد مكوناتها لكن هذا لا يمنع من وجود أسباب للتعاون بينهما في قضايا مختلفة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن