قضايا وآراء

بيدرسون.. «الخطوة خطوة» لكن «ببطء»

| عبد المنعم علي عيسى

لا نشك في أن المبعوث الأممي غير بيدرسون يمتلك الكثير من المزايا والكثير من المؤهلات التي جعلته يصمد في مهمته أربع سنوات لم يبد فيها شيئاً من التململ أو ضيق الصدر، الحالتان اللتان دفعتا بأسلافه لجمع أوراقهما ثم الرحيل عن أزمة تبدو تسويتها مرتبطة بأربعة أصقاع الأرض، حتى ليبدو أن حدثاً ما يجري في القارة اللاتينية أو الإفريقية، مثال كاف ليؤثر في مساراتها، ولربما كان ذلك نتاجاً مؤكداً لعبء الجغرافيا ومعها حمولات التاريخ حيث فرضتا حالة جيوسياسية شديدة الحساسية بدرجة يخال المتابع لها أن المعادلات التي ستنجم عن تسوية مفترضة لها سوف ترسم، أو تشارك في رسم المعادلات التي ستقود إلى استقرار أو اضطراب المعمورة، صحيح أن الصراع في سورية، وعليها، لا يقاس بالصراع الدائر في أوكرانيا، لكن الصحيح أيضاً أن هذا الأخير الذي غدا أشبه بحرب عالمية محصورة بجغرافيا محدودة لم يستطع أن يطفئ توهج الأول، ولا استطاع إبعاده إلى «الدرج» الأسفل، الفعل الذي يعني من حيث النتيجة إرجاء الملف إلى آجال بعيدة، أو ريثما «تمل» أطرافه من «المسكنات» فتدفع بها نحو «الجراحة» وإن كانت غرفة العمليات خالية من «المخدر» أو «الطبيب» القادر على أداء تلك المهمة.

عندما حط بيدرسون رحاله في العاصمة السورية يوم الإثنين الماضي، كان مدركاً أن مراميه العديدة من تلك الرحلة تكاد تكون مستحيلة التحقيق، فـ«اللجنة الدستورية» التي علقت اجتماعاتها أواخر شهر تموز المنصرم من دون أي ذكر للموعد المقبل، دخلت في «ثلاجة» الصراع الأوكراني، ومن الصعب اليوم بث روح الحياة فيها وخصوصاً أن موسكو كانت قد أعلنت في حزيران الماضي على لسان المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سورية ألكسندر لافرنتييف، أن «اختيار منصة جديدة يعتبر دلالة سياسية نظراً للسياسة العدائية لسويسرا تجاه روسيا»، وهذه وحدها تمثل معضلة كبرى، فتغير المنصة هنا، أو الموافقة عليها، يعني ضمنياً إقراراً بتغييرات دولية كبرى، هذا إن لم يكن يشير، في حال موافقة الغرب عليه، إلى وضع هذا الأخير «ختمه» تصديقاً لذلك الإقرار، فنقل المفاوضات إلى مسقط أو أبو ظبي أو الجزائر، كما تقول مقترحات، فعل يتعدى في أبعاده الابتعاد عن «العقدة» لتسهيل عمل المنشار، نظراً لاعتبارات عديدة من بينها أن الغرب لا يزال ينظر إلى جنيف، العاصمة السويسرية، على أنها «جنيفه» التي اختارت الحياد الذي يضمن لها التموضع دائماً في كنفه، بل إن استمرار التوافق الدولي على فض النزاعات على الأرض السويسرية، يمثل مؤشراً على هيمنة الغرب على النظام الدولي برمته، ناهيك عن أن المطارح الثلاثة المقترحة لا تحظى بقبول أميركي جراء تراصفاتها الأخيرة على ضفاف الصراع الأوكراني، هذا إن تكن الرؤية في واشنطن رحلت باتجاه أن تلك المطارح كلها قد تجاوزت في مواقفها من ذلك الصراع حد النصف من المسطرة نحو موسكو، بينما اتجاه المسير يشير إلى أنها مرشحة لغذ السير في الاتجاه عينه.

لم يصدر الكثير عما دار في الغرف المغلقة عشية مباحثات بيدرسون في دمشق، ولكن من الواضح أن الأخير يميل إلى رؤية جديدة في مقارباته التي يبتنيها إبان أدائه لمهتمه، والشاهد هو أنه يميل لاستخدامه لغة تحتوي على مفردات لا تشابه تلك التي كان يستخدمها في توصيفاته للأحداث، لكن أهم ما قاله بالتأكيد جاء في رده على السؤال الذكي الذي يستفسر عما إذا كان القرار 2254 لا يزال صالحاً للعمل في ظل المتغيرات، كان رد بيدرسون: «بصدق قرار مجلس الأمن الدولي 2254 لم يعد صالحاً»، وإذا ما كانت الوقائع والمتغيرات على الأرض قد تجاوزت ذلك القرار الذي صدر في 18 كانون الأول من العام 2015 في ظل خرائط سيطرة لا تشبه تلك التي سائدة اليوم، وإذا ما كان إقرار المبعوث الأممي بتلك المتغيرات، مما يشير له عبر تصريحه آنف الذكر، فإن المعضلة تبقى ما البديل؟ فنسف مرجعية من دون الاتفاق على بديل لها، يكاد يكون بموازين السياسة، مدعاة لبعثرة الأوراق التي من شأنها أن تعيد بالأمور إلى بداياتها التي سبقت ذلك القرار، وفي ظل الأوضاع الراهنة، التي فرضتها الحرب الأوكرانية، يمكن القول إن من المستحيل استصدار قرار عن مجلس الأمن «يطوي» القرار السابق، فالجهة المخولة لطي قرار هي الجهة التي أصدرته فحسب.

باقي التصريحات الصادرة عن المبعوث الأممي التي أشار فيها إلى أن «وضع السوريين داخل، وخارج سورية يسير بشكل صعب للغاية»، وإلى أن وقف إطلاق النار ساري المفعول منذ آذار 2020 لم يؤد إلى «وقف سقوط المدنيين»، هي تعبير عن «ضيق ذات اليد» الذي يحرج القائل فيدفع به نحو محاولة تفعيل «الملف الإنساني» بدرجة يصبح معها واجهة تدفع باللاعبين نحو مغادرة حالة «الستاتيكو» التي نجمت عن حالة استقطاب شديدة استولدتها نظيرة لها ناجمة عن تضارب في المصالح راح يستدعي تفخيخ كل النقاط الساخنة على خطوط التماس، وعلى الرغم من أن المحاولة جديرة بالاهتمام، وهي تستحق التقدير، لكن متى كانت السياسات التي تدفع نحو تظهير الآلام والمعاناة سبيلاً إلى حل الأزمات التي تحل فقط عندما تصبح التلاقيات متشعبة المحاور، سانحة أو هي تشكل أرضية مساندة لإنضاج الحلول.

بيدرسون اليوم يدور في حلقة مفرغة، فكل المعطيات والأوراق التي بين يديه تحتم ذلك الفعل، والراجح هو أنه الآن يحاول الاستثمار في تلك الحالة لكي يبقى في وضع «حركة» حيث الفعل النقيض مدعاة لـ«موات» وشلل المهمة وهذا يستدعي الرحيل، وفي ذلك الوضع، يصبح الرهان على «معجزة» قد يقذف بها حدث ما أو تطور يمكن له أن يدفع بالمتصارعين نحو «الإصغاء» لخطة «الخطوة خطوة» التي قال عنها مؤخراً إنها يجب أن تسير «ببطء» لكأنما سارت في السابق بسرعة اقتضت لديه أخذ الحذر والحيطة اللازمين لضمان أمن مسارها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن