قضايا وآراء

الرئيس الصيني في المؤتمر العشرين: معركة «النموذج» لا تزال مفتوحة

| عبدالمنعم علي عيسى

قد يكون المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني المنعقد في بكين 16 تشرين أول الجاري المحطة الأهم التي شهدتها مسيرة هذا الأخير بعد وصوله إلى سدة السلطة في البلاد العام 1949 حتى ليكاد، هذا الحدث، يبز عام التأسيس الذي طويت مئويته الأولى العام المنصرم، على الرغم مما شهدته تلك المسيرة من محطات كانت على درجة عالية من الأهمية من نوع «الثورة الثقافية» التي أطلقها الزعيم ماوتسي تونغ مطلع الستينيات من القرن المنصرم، والتي هدفت إلى نقل المجتمع الصيني من حالة التخلف التي تفترض أشكالاً متنوعة من التبعية، إلى وضعية اللحاق بركب ما يجري في المحيط، ومن نوع «الثورة على الفقر» التي أطلقها الحزب ما بين 2015 – 2020 والتي هدف من خلالها إلى انتشال ما يقرب من 100 مليون صيني من براثن الجوع الذي يصبح، عندما يتركز مناطقياً، الصفة الأبرز لتجمعات تغلب عليها هذي الصفة، أشبه بالثقل الذي يشد برافعة النهوض نحو أسفل حيث غالباً ما يستطيع، فعل الشد ذاك، إعاقة حركة الرافعة مهما تكن استطاعتها.

تتأتى أهمية المؤتمر آنف الذكر من معطيات عدة لكن أبرزها اثنان، الأول هو أنه خطوة مهمة على طريق استعادة «الإيديولوجيات» لبريقها الذي فقد جزءاً كبيراً منه في أعقاب سيادة ثقافة «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» التي أطلقها فرنسيس فوكوياما العام 1992، أي في العام الذي تلا سقوط وتفكك الاتحاد السوفييتي الذي شكلت الإيديولوجيا عنصراً هو الأهم في قيام التجربة، وفيها، أي في نظرية فوكوياما سابقة الذكر، كان الأخير قد تنبأ للصين بأنها «سوف تتبع مسار معظم البلدان الأخرى» التي يراها فوكوياما «ديمقراطية» بدرجة تجعل من نموذجها هو الوحيد القادر على الاستمرار والانتصار، والثانية هي أن محطة 16 تشرين الأول 2022 كانت الذروة في مسار سلكه الزعيم شي جين بينغ منذ وصوله إلى السلطة شهر تشرين الثاني 2012، وفيه استطاع في غضون عقد فقط أن يحقق انتصارات وازنة على «الفقر»، ويعالج جزئياً الدور السلبي للتأثيرات التي كانت تتركها عجلات الاقتصاد العملاقة على التغير المناخي، ثم نجح بدرجة لافتة في كبح ظاهرة الفساد الذي كان مستشرياً بدرجة مقلقة، ناهيك عن نجاح هو الأهـــم الــذي تمحــور حول القفزات الكبرى التي حققها الاقتصاد الصيني في عهده على الرغم من العثرات الكبرى التي اعترضت الفعل وعلى رأسها «جائحة كورونا» التي استطاع تطويعها بعد أقل من سنتين معلناً عن نتائج تشير إلى «صفر كوفيد 19» الاسم الذي التصق نشوؤه ببلاده أواخر العام 2019.

لم يكن مشروع «الحزام والطريق» من نتاج عهد الزعيم الصيني الراهن، فهو ورد في أدبيات السياسة الصينية قبله بنحو عام، لكن المشروع معه أضحى يتعدى البعد الاقتصادي ليصبح أقرب ما يكون إلى مشروع لإعادة تشكيل النظام الدولي الذي تهيمن علية الأحادية الأميركية بدرجة تجعل من العالم رهينة بين أيديها، والغرب الذي أدرك أبعاد المشروع راح يرقب كل سلوك داخلي أو خارجي يصدر عن الزعيم الصيني في محاولة لفهم أولوياته ثم تراتبيتها التي توصل إلى الأدنى منها، وهو، أي الغرب، أخطأ كثيراً في تقييم تجربة هذا الأخير عندما نظر إليه على أنه أقرب إلى فكر سلفه دينغ هسياو بنغ الذي قاد المجتمع الصيني عبر مجموعة من التحولات أبرزها إقرار مبدأ «رأسمالية الدولة» مستعيناً في التطبيق بقيادة جماعية جنبت البلاد المصير الذي لقيه الاتحاد السوفيتي العام 1991، ليكتشف الغرب أن الزعيم الصيني هو أقرب إلى القادة التاريخيين من قماشة «ماو» التي ترسخ قيادته في الذات الجماعية للصينيين، وبمعنى آخر كان الخطأ الغربي قد تمحور في النظرة إلى الزعيم الصيني كظاهرة تسعى، فحسب، للتقدم الاقتصادي الذي يتطلب علاقات وثيقة بالغرب لن يكون بمقدورها الإخلال بها تحت أي ظرف من الظروف، وهي، أي نظرة الغرب الخاطئة، لا تقيم كثير اعتبار لمقومات بروز الظاهرة الحضارية والتاريخية الناجمة عن ذات جماعية لأمة عريقة تسعى حثيثاً نحو استعادة مكانتها التي كانت عليها قبل آلاف السنين، وقبيل أن تهيمن الحضارة الغربية على مقدرات العالم قبل نحو خمسة قرون من الزمن.

على أهمية المحاور التي احتواها خطاب الرئيس شي أمام المؤتمر العشرين للحزب، والتي تركزت حول تجديد «شباب الأمة» المتولد عنــده من قلــق أن يلحــق الانخفاض الوشــيك في عــــدد ســكان الصــين الضرر بالاقتصاد الوطني، وتسريع خطوات التطوير العسكري، ثم وصولاً إلى «قضية تايوان» التي أكد فيها على حق «استخدام القوة» من دون أن يقفل الباب من «أجل التوصل إلى حل سلمي» لتلك القضية، لكن هناك محاور أخرى، وهي لا تقل أهمية عن سابقتيها، قد برزت من بين الثنايا من نوع أن الحزب البالغ عديده نحو 96 مليون عضو ليس بوارد إضعاف قبضته على السلطة، وهو في سبيله ذلك منح زعيمه لقب «الربان» الذي لم ينله سوى المؤسس «ماو»، وكلا الأمرين يجعلان «معركة النموذج» مفتوحة بعكس ما سرى الاعتقاد بعيد سقوط وانهيار التجربة السوفييتية العام 1991، ولذاك كله دلالات لا بد أنها ستشغل الكثيرين ممن تعنيهم دراسة التجربة الصينية التي ما انفكت تجرف العقبات والعقابيل التي تعترض مسارها بنجاح يثير الإعجاب.

كرس المؤتمر العشرين للحزب زعامة شي جين بينغ داخلياً عبر التأكيد على دوره «المحوري» تمهيداً لخرق «الميثاق» الذي يمنح الرؤساء حق التربع في المنصب لولايتين فحسب، وخارجياً حيث خرج الزعيم الصيني كرجل هو الأقوى في نادي الزعامات العالمية قياساً إلى الإرباكات التي يشهدها نظيره الأميركي المهدد بالتحول إلى «بطة عرجاء» في أعقاب الانتخابات التي ستجري شهر تشرين ثاني المقبل في بلاده، أما اصطفاف الزعامات الأوروبية فالمشهد فيها لا يشير إلى أي منافس في ظل اضطراب تشهده القارة العجوز بمفاعيل عدة، حتى إن بعض تلك الزعامات لم يستطع الإبقاء على عصا السلطة بين يديه لأكثر من 45 يوماً على شاكلة ما حدث مع ليز تراس البريطانية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن