ثقافة وفن

جيل الحداثة.. جيل الرواد الثاني 2 … تقديم التجارب كان أحياناً عبر بيانات فنية! .. استلهام الخط العربي في مساحات الزخرفة غير المتناهية

| سعد القاسم

أشرت في الحلقة الماضية إلى أن تباين اتجاهات الفنانين وأساليبهم في مرحلة الرواد (الأولى) لم يخرج عن الواقعية التي ظلت مستمرة في الأجيال الفنية المتتالية بأشكال شتى، وظهر خروج الاتجاهات الفنية عن الواقعية فيما وصفناه بمرحلة الرواد الثانية (مرحلة الحداثة)، وترجمت هذه الاتجاهات مفاهيم فكرية تشكيلية تراوحت بين تأصيل الإبداع التشكيلي عن طريق استلهام موروثه الفني والفكري من مختلف المراحل التاريخية، وتوثيق صلته بعصره.

ساحة الإبداع

شهدت العقود الوسطى من القرن العشرين حيوية فائقة في الفن التشكيلي العربي، وحوارات إبداعية عميقة واكبتها حركة نقدية واسعة، كما أن كثيراً من التشكيليين قدموا تجاربهم عبر ما يشبه البيانات الفنية سواء من خلال تقديمهم لأدلة معارضهم، أم من خلال اللقاءات الصحفية التي تحدثوا فيها عن تجاربهم. ومع دخول اتجاهات التجريد ساحة الإبداع التشكيلي العربي، احتدم النقاش حول مفاهيم الفن وخاصة مع أنصار الاتجاهات الواقعية، كما تصاعد الحوار حول الدور الاجتماعي للفن في ظل تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية واسعة المدى والتأثير.

وفي وقت متزامن تقريباً ظهرت الاتجاهات التعبيرية كما لم تغب السريالية عن المشهد التشكيلي السوري، فظهرت في أعمال عدنان ميسر (1921- 1979)، وروبير ملكي (1927)، لتعيد مجتمعة إلى واجهة الحوار الآراء المتباينة عن التراث والمعاصرة، وعن الدلالات الفكرية للفنون البصرية تحت عنوان العلاقة بين الشكل والمضمون. كانت هذه الخلافات الفكرية في الرؤى الفنية وحول الفن، وعلى الرغم من أهميتها وضرورتها، فإنهت تشكل زاداً لشرائح اجتماعية تقف موقف الرافض للفن التشكيلي بمجمله، معتبرة أن في اتجاهاته الواقعية ما يتعارض مع مفاهيمها الثقافية، وفي اتجاهاته التعبيرية والتجريدية ما هو عصي على الفهم، وبالتالي فهو غير مسوغ، وهو ما خلق صعوبات حقيقية أمام الطموح التشكيلي.

الاستقلال بداية

وبالنسبة لسورية، بدأت المرحلة الأكثر أهمية في تاريخ الفن التشكيلي السوري مع الاستقلال 17 نيسان (أبريل) 1946، فقد تعددت الجمعيات التي تهتم بالفن التشكيلي وظهر أول مظهر من مظاهر رعاية الدولة للفن التشكيلي، وظهرت في الفترة ذاتها أولى المحاولات في الكتابة النقدية فكانت الأساس الذي قامت عليه الكتابات النقدية اللاحقة، إضافة إلى أنها قدمت مساهمة غاية في الأهمية بتعريف الجمهور بالفن التشكيلي، وخاصة أن الجمعيات التي رعت الفن التشكيلي ضمت إلى جانب التشكيليين الكتاب والشعراء والموسيقيين وسواهم. لا نقول إن الفن التشكيلي في سورية قد حقق انتشاراً واسعاً عقب الاستقلال، لكن يصح القول إن المناخ الجديد والتطلع إلى بناء الثقافة الوطنية، مهدا له طريق الانعتاق من التبعية، والبحث عن هوية ذاتية له. ويمكن الحديث عن أربعة اتجاهات أساسية ترجمت هذا التطلع سنتوقف في هذا البحث عن أهم ممثليه الذين ينتمون (مولداً) حتى نهاية ثلاثينيات القرن العشرين.

استلهام التراث

– الاتجاه الأول كان نحو استلهام التراث الفني السوري بعد الإسلام لجهة الخط والزخارف.

ويُعتبر أدهم إسماعيل (1923 – 1963) أحد أهم ممثلي هذا الاتجاه، وتكشف لوحاته الأولى عن شخصية فنية مستقلة وقد سعى للوصول إلى فن معاصر له هويته العربية الخاصة، وبدأت شهرته عام 1951 مع لوحة (العتّال) التي استخدم فيها الخط اللا متناهي، المستوحى من الخيط الواسع الاستعمال في الزخرفة العربية، محدداً الشكل عن طريقه. وتدل لوحة (الفارس العربي) عام1953 على نضج أسلوبه في التعبير الفني. ثم اتجه ما بين 1961 و1963 إلى الموضوعات الجمالية وإلى استعمال الحرف العربي موضوعاً لتكوينات فنية جديدة، وفي اكتشاف ما يملكه التراث العربي من أشكال فنية يمكن استخدامها للتعبير عن مضامين متنوعة فأسهم في تجديد لغة التعبير الفني في سورية، وتلاقت أفكاره في هذا المجال مع مبادرات محمود حماد (1923 – 1989)، الذي سعى لصنع لوحة تجريدية معاصرة باستخدام خاص للخط العربي على اعتباره عنصراً تشكيلياً، وكان محمود حماد مصوراً وحفاراً ومصمم ميداليات ونصب معمارية. ساهم عام 1940 بتأسيس مرسم فيرونيز والجمعية السورية للفنون. وشارك في المعرض السنوي الأول عام 1950، وفي عام1960 شارك في تأسيس كلية الفنون الجميلة في دمشق، وتأليف مناهجها. ثم تولى عمادتها بين عامي 1970 و1980، ومن إنجازاته المهمة في تلك الفترة الشروع ببناء المبنى الحالي لكلية الفنون الجميلة. شكّل في السبعينيات جماعة د (نسبة إلى دمشق) مع نصير شورى وإلياس الزيات وقد أقامت الجماعة معرضين مشتركين، وكانت نواة الفن التجريدي في سورية. مرت تجربته بعدة مراحل انتقل فيها من الواقعية إلى أسلوب تجريدي خاص يعتمد الحرف العربي كعنصر تشكيلي ضمن بناء معماري محكم. بعد وفاته بعام منحته الدولة وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى.

وللزخرفة مكانها

ومن أعلام هذا الاتجاه نعيم إسماعيل (1930ـ 1979) وقد تركزت تجربته على منح (الزخرفة) قدرة على التعبير عن الموضوعات الإنسانية والاجتماعية والسياسية، لتصبح تصويراً، بالمعنى الدقيق للكلمة، بعد أن يدخل عليها التعديلات الفنية لتكون لغة حديثة تقوم على جذور في التراث العربي. لهذا حذف التكرار الرتيب منها، واستعاض عنه بالمفاجأة، وجعل الوحدات الزخرفية تتناسق وفق مفاهيم التصوير وما فيها من بعد وقرب وعلاقات بين المساحات وتناغم بين الألوان. عمل بالفسيفساء، وقد ظهرت في عدة أعمال مهمة له من بينها لوحة على الواجهة الرئيسة لمبنى نقابات العمال في دمشق ولوحة جدارية في مدينة الطبقة على واجهة سد الفرات. وقدم في مجمل تجربته فناً حديثاً بروح عربية على صلة بالزخارف العربية والتراث الفني العربي، وقد التقى شقيقه أدهم في الأهداف، واختلفا في المصادر والمعالجة.

من الشعر إلى التشكيل

ومن الأسماء ذات الأهمية الاستثنائية في ذلك الاتجاه عبد القادر أرناؤوط (1936- 1992) وقد بدأ شاعراً ينظم قصائد رقيقة فيها مشاعر فياضة وصور خلابة، ونظم شعراً ساخراً، وخاض غمار القصة القصيرة، والرواية، ولما اختار الفن التشكيلي أخيراً سخّر كل هذه الهوايات والمعارف، لتخدم هذا التوجه الذي استقطب إمكاناته كلها. بدأ التحول المهم في مسيرته الفنية في الفترة الممتدة ما بين 1954 و1956. ففي هذه الفترة التقى عدداً من الفنانين المهمين ومنهم: مروان قصاب باشي، أدهم إسماعيل، نعيم إسماعيل، وبدأ يكتشف من تجاربهم والحوار معهم أهمية الحداثة الفنية، وتعرّف في الوقت نفسه إلى عمالقة الفن العالمي أمثال: موديلياني وبول كلي، وغوغان، وأدرك أن على الفنان أن يقدم ما هو أعمق من مجرد رسم لمنظر تقليدي، عمل بوزارة الثقافة مصمماً ومشرفاً على تصميم لوحات إعلانية أبرزت موهبته الغرافيكية. واستخرج من الخط العربي والزخرفة الحرفية المحلية جماليات جديدة، فكانت لوحاته مزيجاً من الابتكار والحداثة والشاعرية وروح التراث. ولا يمكن الحديث عن تطور فن الإعلان في سورية من دون الحديث عن الدور الحيوي لعبد القادر أرناؤوط فيه، فقد ابتكر تصاميم فريدة لمعرض دمشق الدولي ولفرقة موسيقا الحجرة ولعروض مسرحية وأغلفة كتب، كما ابتكر تصميماً حديثاً للخط العربي، وأنجز عدة أغلفة ورموز بصرية من بينها لوغو اتحاد الفنانين التشكيليين السوريين. وتم تكريم ذكراه في الموسم الثاني لأيام الفن التشكيلي السوري عام 2019.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن