ليس غريباً على الإطلاق بأن يقوم الكيان الصهيوني وساسته الرسميون والعسكريون بتبني سياسات عدوانية مهما كان شكلها قبيل أي انتخابات داخلية، أو لتفريغ أزمات داخلية، أو لأي سبب يشكل دافعاً للسلوكيات العدوانية، غير أن الواقع اليوم في الضفة الغربية وبصورة خاصة في مدينة نابلس لا ينطبق عليه هذا المنطق الصهيوني وإن كانت الانتخابات البرلمانية المبكرة للمرة الخامسة على الأبواب، وما سبقها وما يتوقع أن يتزامن مع حدوثها من مزايدات صهيونية تتبناها الأحزاب والشخصيات المرشحة في برامجها الانتخابية كمحاولة لاستقطاب المزيد من أصوات الناخبين.
لقد بات الحصار المفروض على مدينة نابلس منذ العاشر من شهر تشرين الأول الجاري خارج هذه الحسابات الانتخابية بنسبة كبيرة، في ظل تزايد المخاوف الاستخباراتية الأمنية والعسكرية الإسرائيلية من التطورات الحاصلة بمدن الضفة الغربية التي بدأت تشهد تطورات ومتغيرات ميدانية، عسكرية وأمنية، تنذر بنواة انتفاضة جديدة تقودها حركات أو مجموعات ناشئة في أكثر من رقعة جغرافية ضمن إطار الضفة الغربية، وهو ما شكل مخاوف حقيقية من أن تتحول الضفة «لعش دبابير» من المقاومة والعمل الفدائي على غرار قطاع غزة المحرر، وهو ما عكسته تصريحات المسؤولين الصهاينة في الآونة الأخيرة.
تتصدر مجموعة «عرين الأسود» قائمة المخاوف الإسرائيلية، التي يبدو حتى يومنا هذا، أنها فشلت في إنهاء الحالة الفريدة والنوعية لعملها ونشاطها المقاوم، رغم حداثة المجموعة التي أعلنت عن نفسها بشكل علني لأول مرة بداية شهر أيلول الماضي أثناء تأبين اثنين من أعضائها وهما: محمد العزيزي وعبد الرحمن الصبح اللذان استشهدا بصاروخ إسرائيلي في مدينة نابلس، ليتزامن ظهورها الأول مع إعلانها ميثاق وبيان عملها متضمناً نقاطاً عدة أبرزها:
– التمسك بخيار المقاومة كخيار وحيد وشرعي لاسترداد الحقوق وتحرير الأرض ومواجهة الكيان المغتصب، وعدم ترك البندقية وتوجيهها ضد قوات المحتل والمستوطنين ومن يساندهم، في رسالة واضحة لتذكير باقي الفصائل الفلسطينية بأهدافها التأسيسية لغرض المقاومة بما في ذلك «فتح» التي أعلنت في أحد بنود تأسيسها مطلع الستينيات توحيد الجهود لمقاومة المحتل عسكرياً.
– توعدت «عرين الأسود» في بيانها الكيان المحتل بمعارك متجددة لا يمكن لأجهزته ومؤسساته أن يتوقع شكلها أو يعرف أماكنها وأساليب حدوثها، وهو ما يضعنا أمام عدة احتمالات منها أن يكون أعضاء هذه الحركة لديهم خلفية عسكرية سابقة عبر عملهم في الفصائل المقاومة، أو أن الحركة الجديدة لديها قنوات تواصل مع حركات المقاومة في قطاع غزة وتستفيد من تجاربها السابقة في المواجهة.
– نوهت المجموعة في بيانها بأهمية تعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية وإنهاء حالة الانقسام، بغرض توحيد جهود المقاومة وتكريسها ضد الاحتلال.
غير أن ما يميز هذا البيان إلى جانب ما تم ذكره سابقاً، وإضافة إلى عدم وجود هيكل تنظيمي وقيادة سياسية أو مرجعية تستند إليها في عملها، هو تذكيرها بتضحيات القادة التاريخيين لكل الفصائل، مثل الرئيس الراحل ياسر عرفات والشيخ أحمد ياسين وأبو علي مصطفى وغيرهم، وهو ما يؤرق الأجهزة الأمنية والسياسية الإسرائيلية أكثر، لكون عمل هذه المجموعة وتمسكها بهذه البنود وترجمتها على أرض الواقع قد يدفع المزيد من الحركات أو المجموعات للعمل في باقي مدن الضفة، كما يحصل في مخيم جنين التي تشهد حراكاً متصاعداً للمقاومة تتولاها «كتيبة جنين» ذات العلاقة الارتباطية مع «عرين الأسود»، كما أن هذا البيان يزيد من الصبغة الشعبية لهذه المجموعة التي تجلت في صور عدة أبرزها تلبية أهالي مدينة نابلس لتعميم المجموعة منتصف الشهر الجاري للخروج لأسطح البيوت والأبنية وتحدي جيش الاحتلال والتصدي الشعبي لمحاولة التسلل الإسرائيلي للمدينة القديمة لاستهداف مواقع ومقار يوجد بها عناصر «عرين الأسود»، ومن النقاط البارزة والمقلقة أيضاً للأجهزة الإسرائيلية هو أن ظهور مجموعة «عرين الأسود» وغيرها من المجموعات المقاومة جاء نتيجة خلل وضعف لأجهزة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.
أما من الناحية العسكرية، فقد اعتمدت «عرين الأسود» ومنذ بداية نشاطها المقاوم بداية العام الحالي، على تكتيك وأسلوب المباغتة ضد قوات الاحتلال المتمركزة على الحواجز أو المواقع العسكرية القريبة، وتمكنت من فرض مبادرتها من حيث الزمان والمكان، وهو ما دفع صحيفة «معاريف» الإسرائيلية للقول إن: «الأجهزة الاستخباراتية الأمنية والعسكرية الإسرائيلية عاجزة عن فهم عمل مجموعة «عرين الأسود» وعقليتها السائدة»، وأضافت الصحيفة نقلاً عن مصادر أمنية «إن هذه المجموعة لها مفهوم جديد وغريب من حيث سرعة انتشارها وخططها الميدانية»، ويبرز خطر هذه المجموعة وتأثيرها المقاوم المتنامي في تصريح وزير الدفاع الإسرائيلي بني غانتس الذي أكد أن حكومته وضعت هدفاً إستراتيجياً لقوات جيش الاحتلال بتصفية عناصر المجموعة، وذلك بعد إخفاق العرض الذي قدمته حكومة الاحتلال لهم عن طريق السلطة الفلسطينية يتضمن تسليم سلاحها مقابل منحهم عفواً قضائياً وفق تسريب صحيفة «هآرتس»، وهو ما دفع جيش الاحتلال لاتباع الحصار القاسي على نابلس بغرض تأليب الحاضنة الشعبية على المجموعة، واتبعت أسلوب الاغتيالات في الضفة بعد عقدين من الزمن، كما حصل في استهداف تامر سفيان الكيلاني مؤخراً، ما يعكس الإدراك الإسرائيلي لخطر الاجتياح البري لنابلس من ناحية ولمقدرات عرين الأسود المتنامية.
من المؤكد والحتمي بأن تأسيس هذه المجموعة من دون تحولها إلى فصيل له هيكل تنظيمي وسرعة انتشارها واحتضانها على المستوى الشعبي وقدرتها على القيام بعمليات نوعية، ستؤدي نحو انعطافة مهمة في مسار الصراع الفلسطيني مع الكيان الصهيوني، وقد تمهد لانتفاضة جديدة مغايرة تماماً للانتفاضتين السابقتين من حيث التأثير والنتائج والنطاق الجغرافي، وقد تؤدي لزيادة الشحن المعنوي للأجيال الجديدة في مقاومة الاحتلال ولعل آخر نماذجها هو الشهيد عدي التميمي الذي رثته المجموعة، كما أن نجاحها في استكمال مقاومتها على هذا الشكل قد يحرج السلطة الفلسطينية التي باتت اليوم بحاجة أكثر من أي مرحلة سابقة لنفض الغبار عنها والعودة لمبادئها، وقد تزيد من حرج وإرباك الكيان الإسرائيلي الذي انكسرت أمواجه أمام جبروت الأسود وعرينها.