من دفتر الوطن

أكلة لحومنا!

| حسن م. يوسف

تعلمت خلال خدمتي الطويلة على جبهة الحروف أن النقد يجب أن يكون كالمطر الغدق الذي يروي البشر والأشجار والنباتات، من دون إلحاق الأذية بهم، لا كالمطر الدفاق الذي ينحدر من الشعاب العالية جارفاً الأشجار والتربة والبشر!

وقد أطنب أجدادنا في مدح النقد ورأى بعضهم أن حاجة المجتمع للنقد لا تقل عن حاجته للبناء، ومن أشهر وأجمل ما قاله أجدادنا في هذا الصدد: «رحم الله من أهدى إليَّ عيوبي».

إلا أنني لاحظت خلال الفترة الماضية انتشار نوع جديد من (النقد) وخاصة في أوساط أبنائنا في الخارج. صحيح أن معظم أبنائنا النجباء في الخارج يحاولون أن يكونوا سفراء حقيقيين لسورية في البلدان التي التحقوا بها، إلا أن بعض المتعلمين من هؤلاء يسيئون استخدام ما في حوزتهم من معلومات سلبية عن ثقافتهم الأصلية وتاريخ مجتمعاتهم كي يتملقوا القارئ الغربي، من خلال المغالاة في تسفيه ثقافة البلدان التي جاؤوا منها لتبرير مغادرتهم لها، وتأكيد انفصالهم عنها واندماجهم في ثقافة البلد الذي التحقوا به. وهؤلاء يشبهون برأيي راقصة التعري التي تدعي أنها تخلع ثيابها انطلاقاً من إيمانها بـ(حرية الجسد) لا من أجل ما يرش عليها من مال!

خلال الفترة الماضية تابعت عدة نماذج من هؤلاء؛ الأول كاتب وباحث وشاعر يقيم في الدانمرك، وهو يقول بلهجة قاطعة مانعة إن «العرب لم يقدموا شيئاً للحضارة البشرية»! هكذا قشة لفة! فالعقل العربي برأيه عقل إقصائي يطغى عليه التوحش والسلوك الصحراوي القبلي و«ينفي حق الآخرين في الوجود»! وهو (يرى) أن «الثقافة الإقصائية هي السبب الرئيسي خلف النكوص الأخلاقي والعجز الحضاري، والإخفاق الحداثي، والهزائم التي تصيب الأمتين العربية والإسلامية. وهذا برأيه ما أدى إلى أسر الأمة بسجون تاريخها وإصابتها بانسداد فكري واستعصاء علمي وجمود حضاري… بينما الأمم جميعاً كسرت قيدها وانطلقت نحو التقدم والازدهار».

هكذا قال صاحبنا بلغة تعميمية جارفة كاسحة ماسحة أن العربي لا يرى تحقيق ذاته إلا بنفي الآخر وأن العرب لم يقدموا شيئاً في التاريخ، وأن «الأمم جميعاً كسرت قيدها» ما عداهم!

تعلم أيها القارئ العزيز أن هيلاري كلينتون اعترفت أمام الكونغرس بأن أميركا هي من مولت الإرهابيين في أفغانستان، إلا أن هذا الشرقي (المستغرب) يرى أن الفكر الإقصائي العربي هو السبب الوحيد لنشوء حركات التكفير والتيارات الظلامية!

وهو لم يكتف بتبرئة الغرب وحسب بل زعم أن «التكفير في بلادنا منظومة يمارسها الجميع، من علمانيين ويساريين وقوميين وليبراليين… الخ». ثم يختم بقوله: «نحن أمة لا تقبل الاختلاف، لا اختلاف الدين، ولا الهوية، ولا الرأي، ولا المذهب، ولا الطائفة. وثقافتنا هي ثقافة هدم لا ثقافة بناء، ثقافة قتل لا ثقافة حياة، ثقافة تفريق لا ثقافة توحيد، ثقافة طاردة نافية لا ثقافة جاذبة».

كاتب آخر من عاصمة أوروبية أخرى يقول بلغة قاطعة مانعة: «أكبر إنجاز حققه العرب في التاريخ هو تمكنهم من فرملة العقل عن أداء دوره في التعمير وتحويله إلى أداة للتدمير».

صحيح أن حالتنا الراهنة نحن العرب بالغة السوء لكن هذا لا يبرر لبعض (المستغربين) من أبنائنا أن يأكلوا لحمنا ونحن أحياء!

في الختام اسمحوا لي أن أذكركم وأذكرهم بقول المؤرخ الفرنسي جوستاف لوبون:

«لو أن العرب استولوا على فرنسا -(بعد معركة بلاط الشهداء)- لصارت باريس مركزاً للحضارة والعلم منذ ذلك الحين، حيث كان رجل الشارع في إسبانيا يكتب ويقرأ بل يقرض الشعر أحياناً، في الوقت الذي كان فيه ملوك أوروبا لا يعرفون كتابة أسمائهم».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن