قضايا وآراء

الحكومات ومحاربة عدو التنمية

| الدكتور قحطان السيوفي

لا يختلف اثنان على أهمية قيم الشفافية والأمانة والنزاهة بالنسبة للأفراد والشعوب والحكومات، وأن غياب هذه القيم يشجع على الفساد، وهنا يبرز دور الحكومات في التصدي للفساد ومحاربته على اعتباره قوة مدمرة وأشد المتألمين منها هم الفقراء، لأنه يحرم المرضى من الدواء، ويحول من دون بناء المدارس والجامعات، ويهدر المال العام.

في عام 1996 وصف رئيس البنك الدولي جيمس وولفنسون الفساد بأنه أشبه بمرض السرطان، وقد تطور الفساد على مدى العقدين الماضيين، ولاسيما في حقبة التصدي لجائحة كورونا، وفي المقابل، تطورت أساليب مكافحة الفساد لتواكب التحديات العالمية والمحلية التي تواجهها الدول اليوم، إضافة إلى الفرص الجديدة التي تقدمها التكنولوجيا.

وبينما كانت آفة الفساد تقتصر في الماضي على دوائر بعينها في العالم، فإنه يتزايد إلى حد الاستشراء عالمياً، وأصبح السمة المميزة الموجودة في الدول المتقدمة اقتصادياً، وفي الدول النامية، ووفقاً لتعريف منظمة الشفافية الدولية يمكن أن يكون الفساد كبيراً أو صغيراً أو سياسياً سلطوياً، والفساد الكبير هو الناتج عن استغلال السياسات والقوانين واللوائح بوساطة أصحاب الوظائف العليا لتحقيق مصالح شخصية على حساب عامة الشعب، أما الفساد الصغير فهو في تحقيق مصلحة مادية من خلال استغلال السلطة العامة بوساطة متوسطي وصغار موظفي الخدمة العامة للاستفادة من المرافق العامة ومختلف أجهزة الخدمة العامة، أما الفساد السياسي فهو التلاعب بالمؤسسات والأنظمة والإجراءات بوساطة السياسيين أو أصحاب السلطة في بلد ما، ويمكن للفساد أن يقوض تنمية رأس المال البشري، ويؤدي وجود عمالة وهمية متغيبة تصرف لهم مستحقات من دون عمل، وتزوير الشهادات العلمية الذي يؤدي لإضعاف فاعلية التعلم، كما تؤدي الرشوة والاحتيال في شراء الأدوية أو المعدات الطبية إلى زيادة الوفيات.

إن آفة الفساد على اختلاف مظاهرها، تُعد المعوَّق الأكبر لكل دعائم التنمية، وتمتد آثاره إلى كل نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

وعلى الصعيد الاقتصادي يؤدي الفساد إلى إعاقة النمو الاقتصادي وإهدار الموارد العامة وهروب الاستثمارات الوطنية أو الأجنبية، والإخلال بعدالة توزيع الدخول والموارد الاقتصادية.

وعلى الصعيد السياسي يؤدي الفساد إلى تشويه الدور المطلوب من الحكومة بشأن تنفيذ السياسة العامة للدولة، وإقصاء الشرفاء والأكفياء عن الوصول للمناصب القيادية.

إن العناق بين السياسة والمال، أصبح يعرف في عصر العولمة والليبرالية الجديدة بالفساد المعولم الذي ازداد كثيراً في زمن العولمة، التي ألغت الحواجز والحدود أمام حركات تنقل السلع ورؤوس الأموال وما صاحب ذلك من انعدام في الرقابة والانحلال في القيم والأخلاق وانتشار السلوكيات اللا معيارية، التي هدفها الوحيد هو الربح، وانتشر الفساد مع غيره من أشكال الإجرام كالاختلاس والتلاعب في العقود العامة، والتهرب الضريبي، وغسل الأموال.

حسب البنك الدولي، بلغ حجم التدفق السنوي لأموال الفساد والأنشطة الإجرامية والتهرب من الضرائب رقماً مذهلاً تجاوز 1.6 تريليون يورو، بينما بلغت قيمة المبالغ المسروقة بطريق الفساد ما يزيد على تريليونين ونصف التريليون دولار، وقيمة الفاقد في الدول النامية بسبب الفساد يقدر بعشرة أضعاف إجمالي مبالغ المساعدات الإنمائية المقدمة لهذه الدول.

لمحاربة الفساد ينبغي على الحكومات إيلاء موضوع الحوكمة ما يستحقه من اهتمام لأن الحوكمة تُعرف بأنها التقاليد والمؤسسات التي تحدد كيفية ممارسة السلطة، وهي تشمل:

أولاً: كيفية اختيار الحكومات ومساءلتها ومراقبتها وتغييرها.

ثانياً: قدرة الحكومات على إدارة الموارد بكفاءة وصياغة السياسات واللوائح السليمة وتنفيذها وفرض تطبيقها.

ثالثاً: احترام المؤسسات التي تحكم التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية.

ولكي تنجح الحكومات في تكريس ونشر الشفافية، ينبغي العمل على تحسين قدرة البلدان على فهم واستخدام المعلومات بشكل فاعل، وإلا فإن المواطنين يمكن أن يكونوا أثرياء في البيانات وفقراء في المعلومات، ويجب على الحكومات الاستفادة من التكنولوجيات الجديدة وتشجيع ذلك لتحليل تدفقات البيانات، وتفعيل أنشطة الرقابة والمساءلة، وتحقيق الإنصاف والعدل عند تقديم الخدمات لتلبي احتياجات طالبيها.

من جهة أخرى لتشجيع دخول رأس المال الخاص إلى بلدان الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية، ينبغي لفت الانتباه إلى مخاطر الفساد التي يواجهها المستثمرون، وهذا يتطلب من الحكومات العمل لتحقيق تكافؤ الفرص ووضع الأطر التنظيمية الصحيحة وتحفيز النزاهة.

أخيراً، يواجه العالم أزمات وتحديات تداعيات جائحة كورونا، والحرب الأوكرانية، وكوارث طبيعية، وآفة الفساد، ويجب أن تمثل مكافحة الفساد أولوية من أولويات التنمية لدى الحكومات، لأن مكافحة الفساد لا توفر الأموال وتوقف السلوك السيئ فحسب، بل تساعد أيضاً على تحقيق مجموعة واسعة من أهداف التنمية.

قد يقوض الفساد جهود تحقيق الاستقرار، ويكرس العنف والتطرف، ويبدد الثقة الضرورية بين المواطن والحكومة، والفساد عدو التنمية، ومكافحته مفتاح بناء الثقة بالحكومة، وهي أيضاً مادة أساسية للنمو الاقتصادي القوي والمستدام.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن