ثقافة وفن

«أمينة» لأحمد العسم وصورة تتحرك أمامنا … استعاض بإعادة تكوين لوحة متكاملة من ذاته

| إسماعيل مروة

أحمد عيسى العسم شاعر إماراتي، قرأت له مرات، وهو من شعراء قصيدة النثر، القصيدة الحرة، والتي تأخذ بمجامع الفكرة دون الاكتراث لما هو مألوف، وحفر اسمه بأسلوبه وطريقته وشاعريته، ومنذ مدة وصلني ديوانه الحديث صدوراً (أمينة) وصرت أقرأ وأطرح الأسئلة على نفسي، فالشاعر يقدم قصيدته معتنياً بالإخراج، فقد تتوزع الكلمة المفتاحية في القصيدة على عدة أسطر لتعطي دلالتها، وفي قصائد أخرى يعتمد السرد، وكأنه يطرق باب النثر والحكاية، لكن ما لفتني في هذا الديوان إصرار الشاعر على إبراز شيء ما وإخفائه لتتحول الأمنية إلى أحجية الديوان صدر عن دار غاف 2022، 210 صفحات من القطع الصغير، وفيه يعزز شاعرنا حضوره الشعري ضمن سياقي قصيدة النثر، والقصيدة الإماراتية، فأجاد وصور من خلال ومضات شعرية وفكرية مضيئة وصادمة.

الأحجية والمقدمة

يبدأ الشاعر مجموعته على غير ما تعودنا في الحديث، فكأنه بدأ ذاتياً ليضعنا في عالم تلفه الدهشة:

عليك أن تفعل مثلي أيها الضوء

وألا تنظر إلى قدم الحياة المكسورة

توضأ بماء الصبح، وتوكل على من يضيء قلب الطير..

أمينة.. يا سيدة الصمت والقرار الصعب

ما الرابط بين الضوء والشاعر؟ ما الرابط بين الحياة والقدم المكسورة؟ الرابط الوحيد الذي أراه يتمثل في الدعوة إلى الصبر والتفاؤل، وبأن شيئاً ما ينتظر الإنسان، لذا عليه أن يكون على وضوء لعله يصل إلى ذلك الضوء المنسرب في قلب الطير ولا يراه.

الرمز ونقاء الروح

بدأ الشاعر بالضوء لينتقل إلى عالم الروح، وبياض الروح، ونقاء الروح وينقل لنا في صورة بمنتهى التركيب والغموض، من البياض إلى قصّ شعرة الغموض مروراً بالكآبة، وبذلك استطاع الشاعر أن يعوّض الجانب الموسيقي بجانب تصويري لا يقل جمالاً للقارئ وهو يبحث عن الصورة ويتابع تفاصيلها، لكن الشاعر يتوقف عن الفيض ليضع القارئ أمام صورة أخرى.

البياض لروحك
التي تملأ الهواء الشاغر
في قلبي بالمرح
تحسن التصرف
حين تطل الكآبة
فجأة على قدمي
الحياة غامضة
في غرفتي
وأنا على استعداد
لقص شعرة الغموض

بين موتين وحكاية

الروح المثقلة بالشعر والهم الذاتي تنطلق لتتشهى وتقرر النوم حدّ الموت، واستعار الشاعر مفهوم أن النوم موت مؤقت، فهل كان يسعى إلى حياة أخرى في الحلم، أم أراد الحديث عن الموت الهادئ، كلاهما يصنع للشاعر عالماً جديداً لم يعهده، هو العالم المشتهى.

سأنام حدّ الموت
فربما أجد
حياة أجمل
في العالم الآخر
.. الوجوه في المقهى
تروي حكايات
مختلفة صفحاتها
منوعة جاذبة
رغم هدوئها

والكلام المعاد المكرور حالة من الركود التي رآها الشاعر فصورها من خلال استخدام الصور لليأس المتثائب، والأفكار في خزينتها، وما توحي للإنسان من تهيؤات، فلم يجد لذاك وسيلة سوى إعادة الكلام المكرور، وذلك في لفتة ذكية، ما قد سبق الكلام عنه، وكأن إعادة الكلام الذي سبق أن قيل يمنحه جدّة ولو نظرية أمام الإنسان الذي فقد كل شيء، فلم يجد شيئاً، لكنه اهتدى لإعادة ما كان قد قاله، وكأنه يسبغ عليه صفة الجدة لمجرد أن قاله من جديد.

لم أجد شيئاً
لتبديد يأسك المتثائب
أو إظهارك من خزينة أفكارك
في طوافها
سوى تلقين لساني
ما قدم سبق الكلام عنك
عبثية الأشياء

في الشعر الحديث تقوم المفارقة على اللحظة، هذه اللحظة التي قد لا تعني شاعراً تقليدياً، فيقوم برسمها وتصويرها ما يناسب روح الحرف واللقطة، لتعبر عن ذاتها، وفي أمينة للعسم الكثير من اللحظات المشتركة أو الذاتية التي يقوم بصياغتها لوحة شعرية تفي بالغرض وتغني عن الموسيقا لما تحمله من إحساس.

وها هو يقف أمام الشأن اليومي، ولا يرقبه كما يفعل الشاعر التقليدي الحدث الكبير، وما بين الرومانسية والواقعية، الذاتية والمعاش نلتقط إحدى صوره الجميلة التي تتكرر كل لحظة دون أن نلقي لها بالاً

التخلص من عبء اليومي والمعاش
تخفيف حمولته من الذات
لا أنتظر تحديد موعد
لأني تركت الهواء
على الباب

الهواء بما يحمله، من صقيع، من عشوائية، من تنفس، من حاجة، من مقتحم خلوة الذات، بكل ما فيه يبقى منتظراً بالإرادة على الباب.. فقد تخفف في اللقطة من كل شيء ليخلو إلى ذاته، وينتقل بصورة عبثية أخرى ليصور تكوين الأشياء، فهو يريد إعادة تكوين الأشياء بطريقته، وعلى مزاجيته، وبما يناسب رغبته في أن يختار الصامت والصائت فيما يدور حوله.. وفي حال العجز عن الواقع إلى المتخيل وهو يغيّر تكوين لوحة ليست إلا حياته، يغير مكان الصخرة، يغلق الجوف مكانها ليبدأ حياة جديدة.

اجتهاد مني
أنزلت الصخرة
من صورة الجبل
تركت حفرة في الصورة
شريط لاصق
على فم الماضي

أمينة للشاعر الإماراتي أحمد عيسى العسم صورة صادقة ومتقدمة للقصيدة الحديثة التي تعنى بالنفس والروح غير عابئة بالصورة التقليدية للشاعر المنبري، الهمس طريقها، والواقع ميدانها، وشاعر مرهف بكل جميل هو القادر ومنذ سنوات ماضية وإلى سنوات قادمة أن يرسم لوحة جيل عبثت به الأقدار، فترك لوحة من ذاته تتقدم لتعبر عن الفرد والمجموع.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن