قضايا وآراء

«كسوف التشرينيين» واستخلاص العبر

| أحمد ضيف الله

في تشرين الأول 2019، انطلقت في بغداد ومحافظات العراق الوسطى والجنوبية، تظاهرات مطلبية غاضبة، استمرت شهوراً متواصلة، شارك بها مئات الآلاف من الجموع المقهورة المطالبة بالقضاء على البطالة والفساد وبلقمة العيش الكريمة، الناقمة على إخفاق وتقصير سياسي وحكومي في تحسين الواقع المعيشي والخدماتي على مدار أكثر من ستة عشر عاماً، وقتل خلالها المئات وجرح الآلاف من المتظاهرين ورجال الأمن.

في الأول من تشرين الأول الماضي خرجت في بغداد تظاهرتين خجولتين بمناسبة الذكرى الثالثة لتلك التظاهرات، شارك بها بضعة آلاف، توزعوا على ساحتين متباعدتين، واحدة في ساحة التحرير، وثانية في ساحة النسور طرد منها الأمين العام لـ«حركة امتداد» النائب علاء الركابي، وهو ذاته الذي طرد من جلسة منح الثقة لرئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في الـ27 من تشرين الأول الماضي، وأُحيل إلى لجنة السلوك النيابية لافتعاله الفوضى والشجار في الجلسة، وقد عكس التجمعان المنفصلان انقسام القوى التشرينية، وفشلها في تنظيم تظاهرات احتجاجية «غير مسبوقة» بحسب ما وعدت بذلك بياناتها، في حين توعدت اللجنة المركزية المشرفة على التظاهرات في بيان لها القوى السياسية كافة «بخطوات وآليات تصعيدية أكبر وأوسع»، داعية العراقيين بمختلف مشاربهم للاستعداد «لوضع حدّ لهذا الصخب والفساد إذا لم تستجب القوى السياسية لمطلب تصفير العملية السياسية» حتى يوم الخامس والعشرين من تشرين الأول 2022.

في الـ25 من تشرين الأول الماضي، وقبيل جلسة منح الثقة لرئيس الوزراء محمد شياع السوداني بيومين، تظاهر العشرات من التشرينيين في ساحة التحرير ببغداد، بحسب ما وعدوا به، إضافة إلى تظاهر أعداد قليلة جداً في محافظتي كربلاء والنجف، في احتجاجات باهتة لم تلق اهتماماً أو انتباهاً لها.

قوى ساحات التظاهر التشرينية تفتتت وتراجع زخمها، بسبب غياب مموليها والمحرضين على دمويتها، فانقسم قادتها، ما بين من استوعبهم رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي كمستشارين ومسؤولين جرى تعيينهم في مناصب حكومية، وما بين من دخل المجلس النيابي كنواب، وآخرين ذابوا ضمن كتل الأحزاب السياسية الرئيسة!

الدعم الشعبي لهذه التظاهرات تراجع بعد انكشاف مدبريها ومموليها من قبل السفارة الأميركية في بغداد، أكبر وكر للجواسيس في العالم، ومن قبل السفارات البريطانية والفرنسية والألمانية والكندية في بغداد، فالعراقيون لم ينسوا بعد ما قام به قسم كبير من المتظاهرين آنذاك من حرق المدارس والأسواق والممتلكات العامة والخاصة، وإغلاق أبواب الدوائر الرسمية باللحام، وقطع الشوارع الرئيسية الواصلة بين المدن بالإطارات المشتعلة والعوارض الحديدة والاسمنتية، وإطلاق النار على القوات الأمنية ورميهم بالقنابل اليدوية، معطلين مصالح العامة من دون أي مبرر لأشهر عدة، إضافة إلى ارتكاب أبشع الجرائم، كقتل شاب في ساحة الوثبة ببغداد في الـ12 من كانون الأول 2019، والتمثيل بجثته وطعنه بالسكاكين وسحله بعد مقتله، ثم نحره وتعليقه من قدميه في عامود للإشارة الضوئية، وتسويق الفضائيات المشبوهة والمواقع الإلكترونية التي على شاكلتها، بأن القتيل هو قناص قام بقتل 9 متظاهرين، ليتبين لاحقاً أنه مراهق في الـ16 من عمره، منع بعض المتظاهرين من التجمع أمام منزله خوفاً على عائلته فقتلوه، وغيرها من الجرائم الموثقة، ليتشابه «ثوار الساحات» في أفعالهم في العراق وسورية.

الاحتلال الأميركي والبريطاني للعراق عام 2003، جاء بحسب ما يزعم ليمنح الشعب العراقي الحرية والديمقراطية! فاتحاً أبواب الحدود العراقية على مصراعيها ليتدفق المئات من العناصر الاستخباراتية والقتلة إلى داخله، موظفين خبراتهم في إدارة حرية منفلتة وديمقراطية فارغة، من دون أي اعتبار للقيم والتقاليد والأعراف الاجتماعية والدينية السائدة، وفي ظل ذلك، تَشّكل في العراق المئات من منظمات المجتمع المدني، بمسميات وتوجهات لا حصر لها، وأغلبها منظمات شكلية، كل موجوداتها صفحة على شبكة الانترنت، ولا تدري من يديرها إن كانوا من داخل العراق أو من إسرائيل!

ومن مدخل استقلالية المجتمع المدني عن سلطة الحكومة كأهم بناء للنظام الديمقراطي، استخدموا عشرات الآلاف من المتضررين، وأداروهم بـ«الريموت كونترول» من خلال أدوات التواصل الاجتماعي مثل «فيسبوك» و«تويتر» وغيرها، مروجين منطق «الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان»، وبرع الأميركيون والإسرائيليون وعملاؤهم في المنطقة في إدارة بسطاء الشعوب وجهاله.

وفي ظل ازدياد الحاجة إلى النفط العراقي، لتفاقم أزمة الطاقة العالمية نتيجة الحرب في أوكرانيا والعقوبات على روسيا، غاب الممولون الداعمون لـ«الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان»، خوفاً من اضطرابات وقلاقل تنعكس سلباً على صادرات العراق النفطية، «فكُسف التشرينيون»، وانكفأ عنهم ممولوهم، وسدت الفضائيات المسوقة لهم أبوابها في وجههم، وترك أصحاب الحق في الساحات من دون أي انتباه أو اهتمام.

فهل هناك من يفهم ويدرك ليعي الدرس والعذر في العراق والوطن العربي؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن