في وقت يقترب فيه عداد أيام الحرب الأوكرانية من أن يشير إلى الرقم 250، بات يقيناً أن هذه الحرب لن تترك شبراً واحداً، حتى ولو كان في أقاصي الأرض، بمنأى عن تداعياتها، وربما كان في الأمر ما يدعو إليه، قياساً لصراع دولي سوف تكون للنتائج التي سيفضي إليها دور الرجحان في بناء معادلات القوة في أوروبا على نحو خاص، وربما في رسم التوازنات الدولية الجديدة برمتها، لكن ما يعوق هذه الأخيرة هو «الحذر» الذي تبديه الصين تجاه ذلك الصراع، والذي يبدو أن مقام بكين فيه لن يطول حتى يكون قرارها بمغادرته.
كانت حصيلة الأيام الـ250 مملوءة بالكثير من الإفرازات، والأخطر منها تمثل في الهزة التي أصابت النظام المالي العالمي الذي بات يرزح تحت مناسيب تضخم مخيفة، بل إن مؤشرات عدة تشير إلى إمكان دخول الاقتصاد العالمي حالة ركود شبيهة بتلك الحاصلة العام 1929 والتي هيأت، بشكل ما، الأرضية المثلى لصعود النازية عام 1933 والتي أشار صعودها إلى صدام حتمي مع قوى استثمرت في نتائج الحرب العالمية الأولى 1914 – 1918 بطريقة كانت «ظالمة» للقدرات الألمانية «المتفوقة» وفق ما كانت تراه برلين هتلر، لكن الأهم مما أنتجته تلك الحرب، هو إشاعة مناخات التوتر على امتداد المعمورة عموماً، لكن الفعل كان متفاوتاً في حدته ليظهر بدرجة أكبر في جبهات كانت تعيش حالة من «الكمون»، فراحت تبدي استعدادها للتسخين تمهيداً لمغادرة حالتها السابقة، ولعل المثال الأبرز لتلك الجبهات هي «تايوان» التي ما انفكت تنظر إليها بكين على أنها جرح في «غرة» نهوضها.
في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني المنعقد منتصف شهر تشرين الأول المنصرم، شدد «الربان» شي جين بينغ على مواصلة السعي بكل الوسائل «للتوحيد السلمي»، لكنه قال: إن خيار «استخدام القوة الحربية لوقف التدخلات، وأي استفزازات خطرة في شؤون تايوان، واحتواء حفنة الانفصاليين في الجزيرة، هو خيار قائم أيضاً»، وهذا يشير إلى ارتفاع مناسيب السخونة بدرجة تعادل النصف، لكن توقعه بأن «التوتر مع الغرب سيواصل الارتفاع في السنوات الخمس المقبلة»، يضع تلك المناسيب في سياق خط تصاعدي لا يعرف الوقت الذي سيصل فيه إلى درجة الغليان، والراجح هو أن الغرب قد قرأ تحديد المدة الزمنية سابقة الذكر على أنه رسالة ترسم لحدود «السلمي» وزمن انتهائه، و«العسكري» وزمن بدئه، من دون أن يعني أن حدود تلك المعادلة الزمنية غير قابلة للتغيير على وقع التطورات والحسابات والتحولات التي باتت تسير بسرعة يخشى معها أن تتقلص حدودها بدرجة كبيرة، وما يشجع على هذه القراءة الأخيرة هو تشكيلة «اللجنة العسكرية» المنبثقة عن المؤتمر العشرين، التي تميز أعضاؤها بالاحترافية وصلابة العقيدة وشدة الولاء لـ«الربان».
هذه «المقذوفات» التي راكمتها «محطة» تشرين الصينية التي أدخلت للمرة الأولى على نظام الحزب تعديلاً يقر بـ«النضال ضد استقلال تايوان» كانت قد استدعت مقاربة أميركية ليست بجديدة، لكن فيها نفحة تصعيد تجلت في إستراتيجية الأمن الوطني الأميركي التي صنفت الصين على أنها «الدولة الوحيدة التي لديها النية لإعادة تشكيل النظام الدولي»، وأنها تستخدم «قوتها الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية لتحقيق هذا الهدف»، وهذا التصنيف هو مؤشر قوي على مغادرة الولايات المتحدة لسياسة «الغموض» الأميركية القائمة تجاه تايوان منذ العام 1979، والتي تختصر بأن واشنطن لا تعترف بهذه الأخيرة كجزء منفصل عن الصين، لكنها أيضاً لا تعترف بأنها جزء منها، في معادلة فريدة من نوعها في العلاقات الدولية، والتي قد تشير إلى تحسب أميركي لـ«اللحظة الصينية» الراهنة قبل ما يزيد على أربعة عقود.
هذا الخروج الأميركي عن «الغموض» الذي اكتنف السياسة الأميركية حيال تايوان، والمعبر عنه في إستراتيجية الأمن الوطني أولاً، ثم بتقديم الدعم السياسي والعسكري لهذه الأخيرة ثانياً، مرده يعود لرؤيا أميركية تقول: إن الصين باتت قادرة على احتواء الجزيرة سلماً أو حرباً، في حين أنها لم تكن كذلك أيام إقرار تلك الإستراتيجية، الأمر الذي يفسر اندفاعة الرئيس الأميركي جو بايدن الذي تعهد قبل أيام بـ«مساعدة تايوان إذا ما تعرضت لهجوم عسكري من الصين»، فالإعلان الذي لم تكن بكين بحاجة إليه للتنبؤ بالموقف الأميركي الذي ستعتمده واشنطن إذا ما قررت بكين استعادة الجزيرة بالقوة، أقله قياساً لمواقفها تجاه الحرب في أوكرانيا التي ستتحول مجرياتها إلى حدث ثانوي فيما إذا اندلعت النار الصينية – الصينية التي ترى واشنطن أنها باتت قاب قوسين أو أدنى، بل إنها ترى أن اندلاعها بات مسألة وقت قياساً إلى معطيات عدة، إضافية لسابقاتها آنفة الذكر، منها أن الصين باتت تشعر بـ«فائض قوة» بفعل الصلابة التي ظهر عليها الاقتصاد الصيني إبان تعرضه لعقبات كبرى كانت هي نفسها قد استطاعت هز كبريات الاقتصادات العالمية، والحالة هذه قد ترى بكين، وفق التقديرات الأميركية، أن الفرصة تبدو سانحة بدرجة كبيرة لاندفاعة تعيد «الجزء» التايواني إلى «الأم» الصينية.
ثمة معطى على درجة عالية من الأهمية، وهو بالتأكيد يقع في صلب الحسابات الصينية عند ذهابها لوضع تصور حول طبيعة الرد الأميركي وحجمه المتوقع حيال نزوع بكين لاستعادة تايوان بالقوة، فالأخيرة تستقطب لوحدها نصف الإنتاج العالمي من الرقاقات الإلكترونية المتطورة التي باتت تمثل عصب صناعات عدة أبرزها العسكرية، وبذا فإن فعلاً من هذا النوع سيصيب في مقتل اقتصاد الدولة الأعظم، بل وسينزل ضربة كبرى بأقوى جيش في العالم، الأداة الأساس التي تستند إليها الولايات المتحدة في ممارستها لفرض هيمنتها على العالم، ولا شك أن الرد الأميركي سيكون محكوماً بدرجة كبيرة بتينك المعطيين.