قضايا وآراء

العدو أمام تحولات جذرية

| محمد نادر العمري

بات الحديث عن تشكيل الحكومة الإسرائيلية يشكل الحيثية الأكثر تداولاً على وسائل الإعلام العبرية وربما على بعض من الإقليمية والدولية، ولاسيما أنها تترافق مع مخاوف داخلية وإقليمية من تشكيل مثل هذه الحكومة بالصبغة اليمينية والدينية المتطرفة، بعد تمكن حلف رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو من الحصول على 6٤ صوتاً داخل الكنيست، وهو ما يخوله تشكيل حكومة يسعى نتنياهو من خلالها تحقيق له أطماع سلطوية من حيث تكريس نفسه كأفضل شخصية تقدم نفسها على أنها صمام أمان ومنقذة لأمن الكيان الغاصب على الصعيد الداخلي، ولذلك وضمن إطار المحادثات التشاورية لتشكيل الحكومة، يضع في نصب عينيه بالدرجة الأولى تشكيل حكومة موسعة عبر استقطاب بعض خصومه في الانتخابات السابقة، لتحقيق هدفين متكاملين:

الهدف الأول يتمثل في إضعاف صف المعارضة سعياً منها لتجزئتها بالدرجة الأولى وعدم تهديد صلاحياته في مجلس الوزراء الإسرائيلي ومجلسه المصغر وداخل الكنيست.

الهدف الثاني يتجلى في ضمان استقرار حكومة نتنياهو الساعي لتشكيلها لمدة أربع سنوات من دون أن تتمكن أي من القوى المؤتلفة من تعريض استقرار هذه الحكومة على غرار الحكومات السابقة التي لم تشهد استقراراً أو استكمالاً لولاياتها إلا لمرتين فقط منذ إنشاء الكيان الصهيوني عام 1948.

إلى جانب هذه الأهداف التي يطمح إليها نتنياهو، هناك مجموعة من النقاط أبرزتها الانتخابات بما يصب في مصلحة نتنياهو وتعكس التطورات الجذرية للداخل الإسرائيلي:

أولاً- نتنياهو الذي تزعم المعارضة على مدى ما يقارب من عامين، تمكن من إسقاط حكومة التغيير المدعومة خارجياً، وبصورة خاصة من حزب الديمقراطيين الأميركي لإنهاء الحياة السياسية لنتنياهو عبر إسقاط الحصانة عنه وإخضاعه لمحكمة على قضايا الفساد.

ثانياً- نجح نتنياهو في توحيد القوى والأحزاب اليمينية المتطرفة والدينية وإدارة قدراتها ليتمكن من الفوز بالانتخابات، وتبرز صور هذه الجهود عبر مساهمة نتنياهو في منع حصول تفكك داخل حزب «يهودت حتوراة» الديني الحريدي بعد تفاقم الخلاف والتهديد بالانفصال بين مرتكزي هذا الحزب الرئيسيين: «ديجل هتوراة» و«إيغودات إسرائيل»، كما نجح في صياغة تألف بين ايتمار بن غفير زعيم «الكاهاينة» وبتسلئيل سموتريتش قائد الصهيونية الدينية اللذين تمكنا من حصد 14 مقعد.

ثالثاً- لقد عكست هذه الانتخابات المحددات والاتجاهات المتغيرة للواقع الاجتماعي من حيث إصباغ الطابع الديني على «المجتمع» الإسرائيلي مقابل تراجع العلمانية، وهو ما يزيد من واقع التطرف والعنصرية داخل هذا «المجتمع»، إذ ينتمي معظم الذين صوتوا لحلف نتنياهو للقوى المتشددة التي لا تتوانى عن استخدام العنف والقوة لتحقيق مصالحها، مثل مناصري الأحزاب ذات الأصول الشرقية المتمركزين في ضواحي المستوطنات أو ما يطلق عليها «مدن التطوير» والأحياء الشعبية داخل المدن الكبرى والذين يعانون من فقدان الخدمات ومن التمييز، وكذلك اتباع الأحزاب الدينية الأرثوذوكسية «الحريديم» القاطنون في الضفة الغربية والقدس والجولان والذين يجدون في تحالفهم مع نتنياهو فرصة لتكريس سلوكهم العنصري، لذلك يمكن وصف العلاقة بأنها علاقة ارتباطية بين أطماع نتنياهو ومصالح هذه القوى.

ثالثاً- مما أكدته هذه الانتخابات وبشكل لا لبس فيه هو تراجع اليسار العلماني لمصلحة اليمين المتدين، وحصر المنافسة بين اليمين الوسط واليمين المتطرف، وهو ما يعني انعكاس الواقع الديموغرافي غير المتزن ما بين العلمانيين ذوي الجذور الغربية والذين يتبنون نهج وتقاليد وثقافة الغرب بما فيها الأسرة الصغيرة ومعدلات الإنجاب القليلة، بطفل أو طفلين بالأكثر، ما أدى لتراجع نسبتهم وتأثيرهم، وبين المتدينين ولاسيما اتباع الأحزاب الحريدية التي تشهد حالات ولادة مرتفعة، وهو ما شكل خزاناً بشرياً كبيراً ساهم في إحداث التحول بالمشهد السياسي وبالمشهد الاجتماعي خلال السنوات الأخيرة، وسيكون له الدافع الأبرز نحو اندثار أي معالم للعلمانية في المستقبل داخل الكيان.

رابعاً- نتيجة تحالف معسكر نتنياهو الفائز في الانتخابات، فإن الحكومة المرتقبة ستشهد تعيين شخصيات متطرفة بات لها وزن وتمثيل داخل الكنيست، وأبرز هذه الشخصيات هم متزعمو التجمع الديني الصهيوني الذين فازوا بـ15 مقعداً برلمانياً، في مقدمتهم غفير زعيم «الكاهينة» والذي لم يخف مطالبه بشغل وزارة الأمن، وهي من أكثر الوزارات تأثراً داخل الكيان، بل أيضاً طالب بتوسيع صلاحياتها، وهو ما قد يدخل الأراضي المحتلة في دائرة من العنف لا تقتصر فقط على العرب بل على اليهود، كما أن ذلك سيؤدي نحو المزيد من التوتر في الضفة والقدس مع رفع مستوى العنف الذي تتبناه الحركات الدينية المتطرفة تجاه الفلسطينيين من اعتداء وقتل وسلب وغيرها، قد تكون تمهيداً لمرحلة تصعيد أو هبة شعبية على غرار ما حصل في القدس في أيار 2021، كما يطالب بتسلئيل سموتريتش بشغل منصب وزير القضاء، وهو ما يعني أن المرحلة المقبلة ستشهد الصراع بين العلمانيين والمتدينين فيما يتعلق بتعديل وتغيير القوانين بما يتلاءم مع مطالب المتدينين في كل المجالات، وهو ما حذر منه بن غوريون منذ خمسينيات القرن الماضي، مثل التوجه نحو تحجيم دور النساء في المجتمع الإسرائيلي بما في ذلك تخفيض دورهن في الجانبين الأمني والعسكري، والإفراج عن اليهود المتطرفين عبر مراسيم العفو الخاصة وعدم محاكمة الجماعات المتطرفة عن أي سلوك ترتكبه تجاه العرب أو تجاه اليهود الفلسطينيون، فضلاً عن إعفاء نتنياهو من تهم الرشوة والفساد الأربع المتهم بها، وهو ما قد يحدث تحولاً لم تنكره الأحزاب الدينية في العلاقة بين الدولة والدين، وهو ما سيترك تأثيره في علاقات إسرائيل الخارجية سواء تجاه الدول الأوروبية والغربية التي تزعم دفاعها عن حقوق الإنسان والحريات وغيرها من الشعارات البراقة، كما أنه سيترك تأثيره في الدول العربية المطبعة مع الكيان وذلك نتيجة رفض هذه القوى الدينية ورفضها لأي علاقة سلام وتسوية مع الدول العربية.

خامساً- موقف نتنياهو وحكومته من التطورات الإقليمية والدولية، إذ إن وصول نتنياهو للحكم سيعزز من عودة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أو ابنته للرئاسة في الولايات المتحدة الأميركية، حيث سيسعى نتنياهو لمعاقبة الديمقراطيين عموماً والرئيس الأميركي الحالي جو بايدن بشكل خاص، نتيجة دعمهم حكومة التغيير لإبعاده عن الحياة السياسية، وهو ما سيظهر أثناء الانتخابات النصفية للكونغرس عبر مطالبة اللوبيات اليهودية في أميركا بدعم الجمهوريين، كما أن عودة نتنياهو للحكم في إسرائيل بعد ثبات التهم الأربع الموجهة إليه في الفساد والرشوة قد تساهم في عودة ترامب المتهم بالنزعة العنصرية، فضلاً عن الرغبة الباطنية لنتنياهو في الانتقام من بايدن من خلال التعبير عن مواقفه المتضامنة مع روسيا، وذلك نتيجة العلاقات التي تربط نتنياهو بموسكو وهو ما يفسر مسارعة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي في تقديم التهنئة لنتنياهو كمحاولة لضمان عدم انزياح الموقف الإسرائيلي.

سادساً- وهي من النقاط البارزة في هذا الإطار وتكمن في أن عزوف الشارع الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة عن المشاركة في الانتخابات، لا تؤكد فقط عدم ثقة الفلسطينيين بأي مسار سياسي لاسترداد الحقوق أو المطالبة بها، بل توجه هذا الشارع لدعم مسار المقاومة واحتضانها وهو ما ينبئ بمرحلة تصاعد وتيرة العمليات المقاومة في داخل الكيان.

نعم كل الأحزاب والقوى السياسية في إسرائيل هي عنصرية ومتطرفة وخاصة تجاه العرب وفلسطين، إلا أن هذه المرحلة تتسم بطفو العنصرية إلى السطح وبشكل موسع وهو ما قد يهدد بمواجهات محلية بين المستوطنين ذاتهم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن