في قبر ترابه أبيض كالطحين، أودعنا الشاعر والروائي والإعلامي عادل محمود، في «عين البوم»، تحت شجرة عنب أوراقها صفراء، قرب شجرة زيتون خضراء، إلى جانب بيت بسيط تحيط به سبعة جبال تغطيها غابات السنديان والقطلب والبطم والبلوط.
من الصعب أن تجد محباً حقيقياً لسورية لا يحب عادل محمود، لكن سورية لم تأت كلها لوداعه.
صحيح أننا، عادل وأنا، نحسب على جيل واحد هو جيل السبعينيات، إلا أنني كنت دائماً أراه مختلفاً، لأنه كان يعمل في مجلة الطليعة الأكثر تميزاً آنذاك مع عدد من نجوم الأدب والفن: زكريا تامر، علي الجندي، خلدون الشمعة، ممدوح عدوان، ونذير نبعة.
عقب فوزي بعدة جوائز في مسابقات القصة القصيرة تقلصت المسافة بيننا، لكنه كان أكثر مني ثقة بنفسه، ويشهد على ذلك الزر الثالث من قميصه الذي ظل مفتوحاً حتى أيامه الأخيرة، معلناً بكل عنفوان استعداده لمصارعة الحياة، رغم أنها كانت تأخذ شكل الثور الهائج في كثير من الأحيان.
عاش عادل محمود القصيدة قبل أن يكتبها، وفعل للقصيدة ما فعله زياد الرحباني للأغنية، إذ أجلسها على مائدة الحياة اليومية وأطعمها الخبز المر مع الناس البسطاء. وقد تصادى صوته مع أصوات عدد من شعراء جيله: رياض الصالح الحسين، نزيه أبو عفش، بندر عبد الحميد، منذر مصري، إلا أنه ظل يحتفظ دائماً بنكهته الفريدة، ربما لأنه كان يزرع الصاعقة في آخر القصيدة كما في قوله: «عندما غادروا /كنت أبحث عن أقصر طريق إلى الميناء/ كي أقول ما يقال عند الوداع/ وأوصي القبطان: أن يحلّي مياه البحر».
صحيح أن السياسة قد تطل برأسها أحياناً من خلال قصائده، إلا أنها تمر كظل سرعان ما يتنحى ليعطي الصدارة للفكرة أو للحب. والحب في قصيدة عادل محمود غالباً ما يطل علينا مغسولاً بأمطار براري الطفولة وأمكنتها الأولى.
درس عادل محمود الأدب العربي في جامعة دمشق، وعقب تخرجه فيها عام 1972 ذهب لأداء خدمة العلم ففرز إلى مجلة «جيش الشعب»، وأثناء خدمته نشبت حرب تشرين التحريرية عام 1973، فعمل مراسلاً حربياً على الجبهة مع زميله وصديقه ممدوح عدوان. وعندما ضاقت دمشق به في مطلع الثمانينات «ألحق الدنيا ببستان هشام».
عقب عودته إلى الوطن، بعد عقد ونيف، التفت عادل لكتابة الرواية وقد فازت روايته الأولى «إلى الأبد ويوم» بالجائزة الأولى من مسابقة مجلة دبي الثقافية عام 2007، ثم تتالت رواياته «شكر للندم»، «قطعة جحيم لهذه الجنة»… إلخ. في آخر عامين أغراه المخرج السينمائي القدير عبد اللطيف عبد الحميد بأن يشارك معه في كتابة سيناريو فيلميه «الإفطار الأخير» و«الطريق» وقد فاز فيلمهما الثاني بجائزة أفضل سيناريو في مهرجان قرطاج، على حين كان عادل في الغيبوبة.
قبل بضع سنوات، نجا عادل محمود من الموت بالمصادفة، لأنه غادر بيت شقيقه قبل أقل من نصف ساعة من هجوم الإرهابيين عليه وإبادة كل من كانوا فيه. لذا كان يصف نفسه بأنه معترض لا معارض.
ظل عادل طوال حياته مخلصاً لزاوية الرأي وقد واظب خلال السنوات العشر الماضية على كتابة مقال أسبوعي في جريدة «عُمَان» أعطاه مؤخراً عنواناً ثابتاً هو «يوميات الحرب السورية». وقد شاءت المصادفة أن يكون رقم آخر حلقة من تلك اليوميات هو 74 أي بعدد الأعوام التي عاشها عادل! في آخر مقال كتبه عادل وجه الكلمات التالية لكل من ابنتيه زين وياسمين:» من الصعب العثور على اللؤلؤ خارج الأصداف /من الصعب العثور على الأصداف خارج البحر/ من الصعب معرفة البحر دون الغوص فيه /عميقاً. بعيداً. دائماً… غوصي/ لا لتعثري على اللؤلؤة، وإنما على… معناها. وفي ختام مقاله الأخير قال: «سر جمال العتم أنه يخفي قمراً في مكان ما!».