استند المشروع الصهيوني الذي صنعته بريطانيا في فلسطين إلى ركيزتين أساسيتين الأولى: التبني البريطاني والدولي الاستعماري السياسي والعسكري لهذا المشروع لفرضه في فلسطين، والثانية: تجنيد الحركة الصهيونية للقوة البشرية اليهودية ونقلها إلى الأراضي المحتلة على يد بريطانيا.
وخلال 74 سنة على وجود هذا الكيان أنجزت القوى الاستعمارية مهمة الاحتلال وتقديم كل أشكال الدعم العسكري والسياسي للكيان الذي صنعته وفرضته في فلسطين، على حين أن الركيزة الثانية أي تجنيد أغلبية يهود العالم وتهجيرهم إلى الكيان الإسرائيلي لم يتحقق على يد الحركة الصهيونية، فالخزان البشري اليهودي في الخارج ما زال يضم يهوداً يزيد عددهم على عدد المستوطنين في الكيان، ففي الولايات المتحدة تشير الأرقام إلى وجود سبعة ملايين ونصف الميون بموجب التقارير اليهودية الأميركية، وفي أوروبا يوجد مليونان، وفي بقية دول العالم قد نجد نصف مليون، وهذا يعني أن عشرة ملايين يهودي لم يستجيبوا لـ«الهجرة» و«التجنيد»، وبقي في الكيان ما لا يزيد على ستة ملايين ونصف المليون يهودي يجابههم سبعة ملايين من الفلسطينيين أصحاب الأرض وينتشرون في كل أرجاء وطنهم من قطاع غزة في الجنوب حتى الناقورة في الشمال.
في هذه الظروف تشير العديد من التقارير الإسرائيلية إلى أن هجرة اليهود إلى الكيان انخفضت إلى حدود متدنية غير مسبوقة في السنوات الخمس الماضية وتزايدت بالمقابل أرقام هجرة عكسية ليهود من الكيان إلى أميركا وأوروبا بلغت مليونين خلال العقود الماضية، على حين أن الكيان لم يستقبل سوى مئات آلاف من المهاجرين إليه خلال الفترة نفسها، وقبل أعوام قليلة لاحظت قيادة الحركة الصهيونية خطورة استمرار هذه النتيجة على إسرائيل فابتكرت منظمة فرعية قبل أعوام قليلة أطلقت عليها اسم «الصهيونية الثالثة» ويشار إليها باختصار بحرف زد الإنكليزي «3-Z» أي «Zionism-3» وهدفها تطوير مشروع حماية الصهيونية وتشجيع هجرة يهود العالم إلى الكيان، وستركز على يهود أميركا وأوروبا وهما أهم قاعدتين للقوى البشرية اليهودية المطلوب تهجيرها.
ومع ذلك لا يبدو أن وضع اليهود في الولايات المتحدة سيساعد على نجاح مشروع «3-Z»
والى جانب ذلك يبدو أن التدهور الراهن للعلاقات بين الإسرائيليين وبين يهود الولايات المتحدة لن يتيح لأصحاب المشروع الصهيوني النجاح في مهامهم بين يهود العالم وخاصة في الولايات المتحدة، ففي 9 تشرين الثاني الجاري نشرت المجلة اليهودية الأميركية «جويش نيوز سينديكيت» تحليلاً بقلم أحد النشطاء في منظمة «3-Z» زاك بودنير تحت عنوان: «يهود الشتات ويهود إسرائيل منقسمون»، جاء فيه أن «المزيد من اليهود الأميركيين بدؤوا يبعدون أنفسهم عن إسرائيل وأصبح المزيد من يهود إسرائيل يعتقدون أن اليهود الأميركيين أضاعوا الطريق ولا يرغبون في أن يكونوا يهوداً أو من جيلهم لأنهم لا يتزاوجون من يهود بل من غير اليهود»،
ويعترف بودنير أن «الانقسام بين الفئتين يؤدي إلى تنافر إيديولوجي برأي معظم اليهود الأميركيين وخاصة أن يهود أميركا لديهم اهتمامات سياسية داخلية تختلف عن الانشغال بالشؤون الإسرائيلية»، ويشير بودنير إلى تزايد دور منظمات أميركية يهودية ذات مواقف انتقادية ضد إسرائيل وهذا ما يقلق تل أبيب بل إن «هناك فك ارتباط بين معظم اليهود الأميركيين وبين الإسرائيليين وهذا ما ظهر من استطلاع أجراه المعهد الأميركي «بيو للدراسات» في عام 2020 على يهود من سن الخمسين وما يزيد، على تبين أن 51 بالمئة منهم يعدون الاهتمام بإسرائيل ضرورة بصفتهم يهوداً، على حين البقية غير مبالية وعلى النقيض من ذلك تبين أن 30 بالمئة إلى 35 بالمئة من الشبان اليهود الأميركيين فقط، يعدون الاهتمام بإسرائيل ضرورة و27 بالمئة من الشبان لا يهمهم ما تعنيه اليهودية لهم، وكانت صحيفة «جروزليم بوست» قد تبين لها من استطلاع للرأي بين الإسرائيليين أن 37 بالمئة فقط من الإسرائيليين يشعرون بخيبة أمل من يهود الخارج الذين لا يريدون الهجرة.
ويبدو من الواضح أن المشروع الصهيوني الذي صنعته بريطانيا وقوى الاستعمار هنا، بدأت تتراجع فرص بقائه في المنطقة، ولم تعد المسوغات القديمة التي روجتها بريطانيا والحركة الصهيونية خلال حربين عالميتين من أجل فرض هذا المشروع في فلسطين، تحمل أي معنى عند أغلبية يهود العالم وهو يتآكل من الداخل وكذلك من ابتعاد الخزان البشري الخارجي عنه والذي استند إليه المشروع الصهيوني، ولم يعد لهذا المشروع وكيانه من ركائز سوى ركيزة الدعم الأميركي الغربي لحماية استمرار بقائه بالقوة والإرهاب وهذا ما يتصدى له الشعب الفلسطيني وحلفاؤه ويحققون من خلال مقاومتهم المزيد من التآكل والتفتيت في جسم الكيان الداخلي.