إن نبوغ فرد من الأفراد، صغيراً أم كبيراً يستحق الاحتفاء، ولكن هذا الاحتفاء يتوزع إلى الاحتفاء بالنابغة، وإلى الاحتفاء بظاهرة النبوغ، وإلى دراستها ومعرفة أسبابها، ودوافعها، ودراسة إمكانية تحويلها إلى ظاهرة مجتمعية، عندما نفعل ذلك، فإن هذه الظاهرة تتحول إلى ظواهر مجتمعية، لا تكتفي بالشعارات، وبالتحيات، ومحاولات الاستفادة من ظاهرة النبوغ حتى من أطراف لم يكن لها من دور في نبوغ من نبغ ووصول من وصل!
واليوم عندما تخرج علينا طفلة بالكثير من الأشياء المعجبة والمهمة، نرى مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام يركز انتباهه في أمور في مجملها يتعلق بالمادة والمكافأة، وماذا ستفعل بهذه المكافأةّ؟ ويتغافل الجميع عن الدور الحاضن الاجتماعي، للأم التي سخرت نفسها وعوائدها البسيطة لهذه الطفلة، وعن البيئة التي حققت كل لوازم النبوغ في هذا الجانب ليكون نتيجة طبيعية لجهود متضافرة، فالجميع يقول: يا الله..! كم هي رائعة؟! يا لهذه الأم! ولكن هل راجع واحدنا نفسه؟
هل سأل نفسه: كم من الأطفال الموهوبين يمكن لو تحققت لهم الحاضنة سيبرعون؟! هل تذكر أحدنا طفله حين طلب منه مجلة أو كتاباً، فنهره، هل تذكر أحدنا سخريته من أم أو أب يدور في رفوف المكتبات لاقتناء كتب ومجلات، في الوقت الذي وصلت التقانة أوجها، وكل شيء موجود عن النت والموبايل؟! أشياء كثيرة ونحن نتابع ما يجري تتبادر إلى الذهن، وأهمها تقريع المقرّعين للأم والبيئة لو لم تحدث هذه الطفرة المفاجئة! وكثيرون هم الذين نسمعهم يقولون: أضعت عمرك في الورق والقراءة!
عندما كانت الطفلة تتحدث، كانت فصحاها أعلى من الفصحى عند الكبار، بل عند المدرسين والمتخصصين، والذين يمتدحون بلاغتها ولغتها، هم أنفسهم من ينتقدون اللغة والتقعّر، ويدعون إلى التسهيل والتخفيف في مناهج التعليم والمواد التعليمية! فكيف يوفقون بين آرائهم ومظاهر إعجابهم وانبهارهم الآني اللحظي بشام وتفوقها القرائي؟!
هنيئاً لشام وأمها تحديداً في هذا الإنجاز، وليس الأمر يتعلق بالقضية المادية، بل يتعلق بصناعة الإنسان، وصناعة الغد، والخروج من قلب الحرب والدمار والقتل، عسى أن يشكل هذا الإنجاز حافزاً للمتابعة من الطفلة، وأن تتم الإفادة من أسلوب الأم المهم في تبني هذا المنهج التربوي التعليمي، ولشريحة أكبر من الأطفال، لأن النبوغ الفردي يبقى فردياً، ويجب أن تنتقل التجربة إلى المستوى المجتمعي لنأخذ مجموعة من الأطفال الذين يمكن أن يكونوا نوابغ، وأن يتحصلوا على المعرفة اللائقة، وأن يشكلوا تياراً معرفياً جديداً، وإن كانوا في قرارتهم لا يدركون أهمية ما يقومون به، إن كتب التراث والأدب تغص بقصص المتفوقين الذين حفظوا القرآن الكريم دون السابعة، وفي زماننا رأينا عدداً منهم على الشاشات، وهناك من حفظ الدواوين والمتون وهو دون السابعة، ولكن ميزة هذه الطفلة المبدعة ليس في الحفظ، بل في القراءة والفهم والاستيعاب، ومن ثم في التعبير عما نهلته واستفادته من القراءة، والميزة الأخرى الأهم تتمثل في شمولية المعرفة من خلال تنوع الكتب التي تم اعتمادها، ففيها الديني، وفيها التربوي، وفيها الأدبي، وفيها الفكري، وهذا ما يسوّغ الحديث عن فكرة النبوغ، إذ من الممكن لأي شخص يوجه اهتمامه إلى جانب، أو يتم توجيهه إلى جانب أن يتقنه، سواء كان دينياً أو تربوياً، أو رياضياً أو حسابياً أو إلكترونياً، لكن الأهمية هنا هي في التنوع المعرفي الكبير، وهضم هذا المحتوى المعرف لتحويله إلى منطوق ومكتوب ومقروء ومشاهَد.
إن نجاح هذه النابغة في مسعاها يجب أن يدفعنا إلى دراسة الظاهرة، وإلى إمكانية توظيفها بشكل جمعي ومجتمعي وتربوي للوصول إلى منهجية جديدة تحاول أن تسعى بالمجتمع الطفولي كله إلى الإبداع من إيمان عميق بأن الإبداع يبدأ من الطفولة، ورحلة الإبداع تقدم الكثير للوطن والفكر والإنسانية وستكون سعيدة بنا عندما نحولها إلى طريقة حياة، وإلى أحد المناهج للسير على خطاها.
ليست شام الأولى، ولن تكون الأخيرة، وفي كل مضمار فكري وثقافي وفني وإبداعي، فلنعد إلى الوراء قليلاً ولنقف عند حاضرنا قليلاً، ولنضع المستقبل نصب أعيننا قبل أن تغيب النوابغ في زحام الحياة والتكاليف.