قضايا وآراء

الانسحاب من مدينة خيرسون بين الضرورات وحتمية أن يكون الأخير

| عامر نعيم الياس

شكّل القرار الروسي بسحب القوات المقاتلة من مدينة خيرسون صدمةً لدى المتابعين لمجريات الحرب في أوكرانيا، وأتى بعد سلسلةٍ من الانسحابات بدأتها روسيا منذ الأسابيع الأولى للحرب، حيث انسحبت القوات الروسية من محيط العاصمة كييف ومن الغرب الأوكراني، وحاولت إعادة تجميع القوات للتركيز على الجنوب والجنوب الشرقي. وتمكنت القوات الروسية من السيطرة على حوالي 100 ألف كيلومتر مربع في الأشهر الأربعة الأوَل من الحرب. لكن تجميع القوات الروسية وإعادة التموضع خضع لاختبارٍ قاسٍ آخر مع تراجع القوات الروسية في خاركيف وفي إيزيوم وغيرها من المناطق واستعادة القوات الأوكرانية لمساحة 12 بالمئة من الأراضي التي سيطرت عليها روسيا في بدايات الحرب، وهنا فقدت الحجة الروسية أي معنى، واليوم أتى سحب القوات من خيرسون ليكون الأخير في سلسلة إعادة التموضع للقوات الروسية من أجل إعادة خوض الحرب في مرحلتها الثانية وفق أولوياتٍ مختلفة.

إن سحب القوات من مدينة خيرسون يختلف قليلاً عن الانسحابات السابقة للقوات الروسية، وذلك اعتماداً على المؤشرات الآتية:

أولاً، الانسحاب من خيرسون أتى بهيئة قرارٍ عسكريٍ ناضجٍ يبدو أن التحضير له بدأ مع تولي الجنرال «سوروفيكين» قيادة العمليات في أوكرانيا، والرجل برّر القرار بحماية القوات الروسية وتعذّر الدفاع عن جبهةٍ واسعة، وهنا يظهر الجانب العملاني لسحب القوات أكثر من جانب الانسحاب تحت ضغط المواجهة.

ثانياً، اعتماداً على الجانب العملاني في الانسحاب، فإن الغرض الأساس يكمن في وقف استنزاف القوات الروسية، وإعادة تموضعها وتثبيت نقاطها على الضفة اليسرى لنهر دينيبرو.

ثالثاً، سحب القوات على الضفة اليسرى يعطي تفوقاً واضحاُ للقوات الروسية، فهي من جهة وظّفت النهر كحاجزٍ طبيعيّ في خدمتها، ومن جهةٍ أخرى فإن الضفة اليسرى للنهر أعلى من الضفة اليمنى بمقدار 15 متراً ما يجعل القوات المدافعة في وضع تفوقٍ بمواجهة القوات المهاجمة من الجانب الأوكراني. فضلاً عن تلافي القوات الروسية معضلة الإمداد بعد تدمير الجسور التي كانت مخصصة لذلك من جانب القوات الأوكرانية، والتي بتدميرها الجسور ومفاجأة القرار الروسي بسحب القوات، أفقدت نفسها إمكانية المناورة والتقدّم انطلاقاً من مدينة خيرسون باتجاه باقي المقاطعة.

رابعاً، روسيا لم تنسحب من خيرسون «المقاطعة» وهي لا تزال تسيطر على ثلثيها، عكس ما يحاول الإعلام الغربي تصويره بأن الانسحاب جرى من «خيرسون»، فهي ببساطة انسحبت من عاصمة المقاطعة، والدليل على ذلك أن السلطات الروسية أعلنت فور انسحابها عاصمةً مؤقتة للمقاطعة تبعد 200 كيلومتر عن خطّ التماس مع القوات الأوكرانية.

خامساً، توقيت الإعلان عن سحب القوات يأتي بعيد إعلان التعبئة الجزئية في روسيا بحوالى الشهر، وعملية التعبئة هذه والتي تدفع بـ300 ألف جندي إلى جبهات القتال تبدأ عندما تنتهي العملية ويتم تجميع عديد القوات المطلوبة، حيث بعدها تتم عملية تأهيل القوات وتدريبها والدفع بها إلى جبهات القتال، وبهذا المعنى فإن تأهيل القوات والزجّ بها في القتال سيسدُّ أحد أهم الثغرات التي تعاني منها القوات الروسية في المواجهة القائمة حالياً في أوكرانيا والتي تتمثل بعديد القوات المقابلة، وخاصةً أن فصل الشتاء الذي بدأ عملياً يجعل من الصعب على أي طرفٍ من الأطراف المتحاربة تحقيق تقدّمٍ نوعيّ وملموس في الميدان.

سادساً، القوات الروسية انسحبت إلى مناطق فيها حاضنة اجتماعية أكثر تماسكاً تلتف حولها وهذا أمرٌ في غاية الأهمية من الناحية العسكرية.

إذاً، سحب القوات بهذا المعنى له ما يبرره وله ما يجعله أمراً ليس معبراً عن انهيارٍ وتراجعٍ وانقلابٍ في موازين القوة، وهذا ربما يفسّر الحذر الرسمي الأوكراني في التعاطي مع الأمر، وهذا الحذر ليس وليد قرارٍ أوكراني بحت، فالحرب التي تخوضها روسيا اليوم هي حربٌ مع الناتو، والتراجعات الروسية في جزءٍ منها أتت وفق إجماع المراقبين تحت ضغط الأسلحة الغربية الحديثة التي زوّدت بها القوات الأوكرانية، وتحت ضغط عمليات التطويع المستمرة للمرتزقة الأجانب المنضوين تحت راية القوات الأوكرانية المقاتلة وكتائبها.

إن الحرب في أوكرانيا تتحوّل إلى حرب استنزاف والأطراف جميعها مدركةٌ لذلك، وروسيا أدركت ذلك ولجأت رسمياً إلى إعلان انسحابٍ عملياتي من خيرسون لمنع الاستنزاف البشري، وهذا ما أكد عليه الجنرال الروسي المسؤول عن العملية عندما ذكر أن خسائر القوات الأوكرانية تفوق خسائر القوات الروسية بثمانية أضعاف، وأيضاً هذا ما يحاول الغرب اليوم وعلى رأسه الولايات المتّحدة التقاطه وتلافيه بظهور تصريحاتٍ إلى العلن بضرورة التفاوض بين روسيا وأوكرانيا كان آخرها تسريب من صحيفة «وول ستريت جورنال» عن نصيحةٍ أسداها مستشار الأمن القومي الأميركي لنظيره الأوكراني بضرورة التفاوض مع موسكو وعدم مطالبة روسيا بالقرم.

إن الحرب الأوكرانية حربٌ مركبة، ففي مواجهة سوء تقدير الموقف السياسي والعسكري الروسي، كان هناك نجاحٌ لافتٌ على مستوى الحرب الاقتصادية، فالعقوبات الغربية انقلبت على صانعيها وذلك سوء تقدير للموقف الاقتصادي من الغرب، وروسيا في هذه اللعبة التي تعدّ السلاح الأقوى لتحديد مسارات الحرب هي المتفوقة حتى الآن، وإذا كان الشتاء لا يسمح بتغيير قواعد وخطوط الميدان، فإنه سيكون عاملاً حاسماً لسبر ارتدادات الحرب الاقتصادية وتماسك المعسكر الآخر المعادي لروسيا، لكن بشرطٍ أساسيّ وهو أن يكون الانسحاب من مدينة خيرسون هو الأخير للقوات الروسية في سلسلة الانسحابات التي شهدناها خلال الأشهر الماضية والتي شكّلت نهاية المرحلة الأولى من الحرب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن