قضايا وآراء

ما بعد انتخابات الكونغرس الأميركي

| عبد المنعم علي عيسى

تمثل انتخابات الكونغرس الأميركي التي تجري منتصف ولاية الرئيس، شهادة «تقييم سلوك» على أداء هذا الأخير في غضون العامين اللذين قضاهما على رأس هرم السلطة، فإما أن تجيء على شكل «مكافأة» فيفوز حزبه بالأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ، الأمر الذي يمكنه من إحكام قبضته على السلطة، وإما أن تجيء على شكل «عقوبة» فيخسر حزبه تلك الأغلبية في كلا المجلسين أو أحدهما، الأمر الذي يجعله بوضعية هي أقرب إلى وضع العصي في عجلاته التي ستصبح بحاجة لمهارة أكثر إذا ما أرادت الدوران بشكل طبيعي، والشاهد هو أن انتخابات الكونغرس كانت تفضي في أغلبية نتائجها لترسيخ شكل «العقوبة» التي تعني عدم رضا القوى والتيارات الفاعلة على أداء الرئيس، الأمر الذي يشكل ظاهرة تحتاج للمزيد من التدقيق فيها للوصول إلى أسبابها، ولعل محاولة سريعة للخوض فيها سينتج عنها وجود خلل واقع بين المنظومة الانتخابية ووعودها، وبين تركيبة مجتمعية اقتصادية سرعان ما تتكشف خيبة آمالها في «المرشح» الذي أضحى رئيساً لجهة إخلاله بالبرامج والوعود التي ابتنى الناخب عليها تحديد قراره الانتخابي، فتسارع إلى تقييد يديه أو إلى الحد من حركتهما، أما الحالات القليلة التي جاءت فيها نتائج الانتخابات النصفية لتعزز من مواقع الرئيس، فيفوز حزبه، فهي غالباً ما كانت تجيء نتيجة ظرف استثنائي داخلي أو خارجي، وهو من الحدة، بحيث يدفع إلى وجوب إظهار التماسك في مواجهة الظرف الاستثناء الذي يبعد «العقوبة» ويضعها خارج الاستخدام.

حمي وطيس الانتخابات التي جرت في 8 من شهر تشرين الثاني الجاري قبيل هذا التاريخ بأشهر، وربما كان يوم 24 شباط المنصرم، هو اليوم الذي بدأت فيه «نقطة الزئبق» ترتفع صعوداً في ميزان الحرارة المخصص لقياس درجة حرارة «الجسد» الأميركي الذي بدا وكأنه جسدان، وهذا التوصيف هو بالقياس لطريقة التعاطي الإعلامي الأميركي مع كلا الحدثين، الحرب والانتخابات، كانت قد أظهرتهما بأنهما يجريان هذه المرة «لشعبين في دولة واحدة».

كانت الحرب الأوكرانية قد استحضرت مزيداً من الاستقطاب في الداخل الأميركي، ثم جاءت مفاعيلها لتحيل الحالة السابقة إلى انقسام يصعب معه إيجاد تلاقيات في ملفات أخرى قياساً إلى أن أغلبية تلك الملفات تتأثر، بدرجة أو بأخرى، بالنقطة الأساس التي راح العديدون، وعلى رأسهم الجمهوريون، يقولون إنها السبب الرئيسي في التضخم الذي يعيشه الاقتصاد الأميركي رفقة نظائره الأوروبية، ثم إنها السبب الأهم في إشاعة مناخات التوتر العالمية التي قد تؤدي إلى انفجارات في مناطق ساخنة مثل تايوان وشبه الجزيرة الكورية، ناهيك، يضيف هؤلاء، إنها قد تستولد استخداما لأسلحة «غير تقليدية» بكل ما يحمله ذلك الفعل من عواقب يستحيل معها التكهن بما يمكن أن تودي إليه، وهذا السيناريو ليس بمستبعد، بل قد يصبح مرجحاً إذا ما استمرت الولايات المتحدة في تقديم الدعم لأوكرانيا الذي لم يكن له مثيل في تاريخ الحروب.

تشير الإحصائيات غير النهائية وبعد أن تم الإعلان عن نتائج 422 من إجمالي 435 مقعداً انتخابياً حتى كتابة هذه السطور، إلى فوز الجمهوريين بـ217 مقعداً في مجلس النواب، وقد كسبوا بذلك 8 مقاعد، في مقابل 205 مقاعد للديمقراطيين الذين خسروا 8 مقاعد، وسط توقعات بأن يؤمن الجمهوريون الأغلبية أي 218 مقعداً، أما في مجلس الشيوخ وعلى خلاف التوقعات، فقد حافظ الديمقراطيون على أغلبيتهم بتثبيت مقاعدهم الـ50 من أصل الـ100، تلك التي كانوا يملكونها قبيل الانتخابات، مع وجود الترجيح لهم بصوت نائبة الرئيس.

يمكن قراءة المشهد الذي ارتسمته انتخابات الكونغرس آنفة الذكر حتى الآن على النحو التالي:

لم يذهب الأميركيون إلى «معاقبة» بايدن ولا إلى «مكافأته»، وإنما قرروا منحه فسحة للوقت لإتمام مسار «أميركا التي عادت»، لكن الفسحة الجديدة تختلف عن سابقتها خلال العامين المنصرمين، لأن الجديدة لن تخلو من «منغصات» كفيلة بتقييد حركة الأجزاء المسؤولة عن نقل الحركة في كيان بدا متعباً بدرجة ظاهرة على الوجه، وعلله تراكمت بدرجة بات يستحيل معها العلاج إلا بـ«الإبر الصينية» القليلة التكلفة لتعافي الجسد لكنها باهظة الثمن لمآلات هذا الأخير بعد التعافي، وإذا ما كان لنا استقراء خطوط السياسات العريضة لإدارة بايدن فيما تبقى لها، فإن الأزمة الأوكرانية سوف يشتد لهيبها ليصل إلى سقوف لم يصلها من قبل، فالأزمة التي قيل إنها باتت مصيرية لروسيا أضحت من حيث النتيجة مصيرية بدرجة أكبر للولايات المتحدة التي باتت تراها كما كانت «السويس 1956» لكل من بريطانيا وفرنسا، وكذا فإن جبهة تايوان سوف تزداد سخونتها أيضاً، على حين الدرجة التي ستصل إليها تلك السخونة سوف تتوقف بدرجة كبيرة على استقرار الأنظمة الأوروبية التي تعاني من توسع الشرخ فيما بينها وبين شعوبها على وقع مواقف الأولى، أي الأنظمة، من الحرب الأوكرانية وتداعياتها على الأخيرة، فالأعمال العسكرية هي جزء من الحرب وليست كلها، والروس عبر أدائهم للشق الاقتصادي من الحرب حققوا نجاحات وازنة، وربما كان المنتظر منها أفضل من تلك التي سبقتها، وأكثر المعرضين للخلخلة هم الأوروبيون الذين إن ضعفوا اختلت موازين القوة بما يكفي لوصول السخونة سابقة الذكر حد الغليان.

في ما يخص أزمتنا، فإن من المرجح أن تتخذ هي الأخرى منحنى تصعيدياً بشقيه الأمني والاقتصادي، على الرغم من أن تركيا والسعودية والعدو الإسرائيلي، القوى التي تلعب دوراً سلبياً في الأزمة السورية، يمكن تصنيفها في خانة «المتضررين» من النتائج التي أفضت إليها الانتخابات النصفية في واشنطن، فاللهيب الروسي الغربي المندلع على الجغرافيا الأوكرانية لا شك سوف يستدعي المزيد منه على نقاط التماس التي تعتبر الجغرافيا السورية أبرزها على الإطلاق ما بعد الأولى.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن