غالباً ما تتميز الصراعات بسمات متعددة وخصائص تميزها عن غيرها من حيث طبيعتها وشكلها والأطراف المنخرطة بها والوسائل المستخدمة في إطارها وحتى مجالاتها، إذ إن الصراع لا يعني بالضرورة أنه ينحصر في إطار استخدام القوة العسكرية أو استعراض العضلات، إن صحَّ التوصيف، بل هو مصطلح متسع يشمل مجالات مختلفة من الاقتصاد والسياسة والثقافة وحتى العقول والأدمغة، كما هو حال الصراع بين المقاومة الإسلامية في لبنان مع الكيان الإسرائيلي.
إلا أن أكثر ما يهمنا من سردية هذه المقدمة هو الوصول لمقاربة أساسها البنائي، يتجلى في الصورة الهرمية التي يمكن أن ندعي بأنها تقول: كانت الصراعات بين قوى أو فواعل سياسية صغيرة أو غير مؤثرة في النسق الدولي كلما كانت شدة هذه الصراعات وتأثيرها أقل، وكلما كانت الصراعات تقع في إطار مجال جغرافي مهم أو بين قوى فاعلة قد تكون كبيرة الحجم والوزن أو صغيرة ولكن ذات أثر وفي قضية من شأنها التأثير بمجريات الدولة أو النظام الإقليمي أو الدولي، كانت طبيعة هذه الصراعات أكثر تأثيراً وأشد عنفاً، لذلك تلجأ من خلاله الأطراف المتصارعة بشكل مباشر أو غير مباشر لإيجاد الشرعية لسلوكياتها والمسوغات لأشكال تدخلاتها وتعطي الحق لذاتها للقيام بما يتناسب مع مصالحها وأهدافها الجيو إستراتيجية، وهو ما يحصل بشكل واضح في الصراع الدائر على الأرض الأوكرانية بين روسيا والغرب الأطلسي بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، التي خلقت التناقضات، وبدأت تقفز على أنغامها لفعل المستحيل في الجغرافية الأوكرانية، ومن خلفها الجوقة الأوروبية التي أخذت بالعزف خلف القيادة الأميركية وأهوائها، ضاربة عرض الحائط بمصالح شعوبها وشعاراتها التي تتبجح في تبنيها، وأبرز صور التناقضات التي يشهدها هذا الصراع وتؤكد شدته وتأثيره تبرز في:
أولاً- بداية الصراع من حيث استخدام القوة العسكرية لم يكن رغبة روسيا، ولكن الأخيرة أجبرت عليه بعد انسداد جميع الطرق السياسية أو أنفاقها الملغومة غربياً، وروسيا لم تكن هي البادئة في إشعال الصراع، بل الجيش الأوكراني الذي تلقى أوامر غربية بقصف إقليمي دونباس ذات الأغلبية الروسية ولمدة أربعة أيام قبل الإعلان الروسي عن بدء العملية الروسية الخاص.
ثانياً- ليست روسيا من هددت أمن واستقرار الدول الأوروبية ولا حتى الأراضي الأميركية، إذ وبالرغم من كل الخلافات بين القطبين الدوليين إلا أن روسيا لم تقرر إرسال قوات لها أو أسلحة إستراتيجية إلى العمق الأوروبي أو لأحد حلفائها في أميركا اللاتينية الواقعة تحت الحصار الاقتصادي الأميركي، بل إن الإستراتيجية الأطلسية الساعية لقضم المزيد من النفوذ والمساحة الجغرافية لمصلحتها هي كانت خلف تهديد الأمن القومي ليس لروسيا فقط، بل لأوروبا التي تغافلت عن اتصالها العضوي بروسيا، ولم تكترث بالخطوط الحمراء المتصلة بالأمن القومي الروسي، وسعت لأن تقف على المشارف الروسية عبر دفع أوكرانيا للمطالبة بالانضمام للاتحاد الأوروبي وحلف الشمال الأطلسي.
ثالثاً- هذا الصراع كان محضراً له استخباراتياً وعسكرياً بشكل عملاتي لا شك فيه من الاستخبارات الأطلسية والأميركية، وليس من الجيش الروسي، وهذا يبرز أولاً في حجم الخسائر التي تلقاها الجيش الروسي، وثانياً في تغير هيكلية الجيش الأوكراني وتكتيكاته التي قاتل ويقاتل بها في أسلوب مماثل للأسلوب الغربي، وثالثاً في المجموعات الفاشية المتطرفة التي كانت مجهزة تدريباً وتسليحاً وانتشاراً، وقدمت على صورة مقاومة شعبية مثل مجموعة أزوف العنصرية والمصنفة من الكونغرس الأميركي على أنها إرهابية، ورابعاً التحضيرات اللوجستية المجهزة لحلف الشمال الأطلسي والتي قدمت للأوكران معلومات استخباراتية ومعلومات عسكرية والموظفة ضمن هذا الصراع، كالأقمار الصناعية وغيرها.
رابعاً- في ملف الطاقة والغذاء لم تكن روسيا هي السبب في حصول أزمات متفاقمة ومتنامية وآخذة في التمدد في هذين الملفين على المستوى الدولي، إذ لم تعلن روسيا وقف إمداداتها من الغاز لأوروبا إلا بعد إقدام الأخيرة تحت الطلب الأميركي على فرض الحصار والعقوبات على روسيا لاستهداف قدراتها المالية والنقدية، ساعية لشل قدرات روسيا وإحداث تضخم اقتصادي يؤدي لانهيار الاقتصاد الروسي على غرار ما حصل في الحقبة الأخيرة من عمر الاتحاد السوفييتي.
خامساً- من التناقضات البارزة في هذا الصراع أنه منذ اليوم الأول لاحتدام العمليات العسكرية، سعت أوكرانيا ومن خلفها واشنطن ودول حلف بروكسل، لاستقطاب مرتزقة الكون من الجنسيات المتعددة تحت مسمى فتح أبواب التطويع، حتى إن المعلومات الموثقة تؤكد انضمام جنود من الجيش البريطاني وعناصر خدموا في الموساد الإسرائيلي إلى جانب إرهابيي القاعدة لمحاربة روسيا، كما أقدمت هذه العواصم على تقديم معظم أنواع الأسلحة المتطورة من الطائرات المسيرة التركية والمضادات الحرارية البريطانية والأميركية وغيرها للجيش الأوكراني، في حين أنها تهدد أي دولة تدعم روسيا وتقف إلى جانبها بأي شكل، وشرعت لاتخاذ عقوبات ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية بذريعة بيعها المسيرات الطائرة للجيش الروسي، كما تتذرع دوماً بوجود قوات كبيرة من الجيش السوري أو متطوعين سوريين يقاتلون مع الجيش الروسي.
سادساً- تتجلى النقطة الأخيرة في سعي الأنظمة الغربية لتغيير نظام الحكم في روسيا من خلال شيطنة مقام الرئاسة الروسية وتحميل الرئيس فلاديمير بوتين مسؤولية جرائم الحرب واستخدام الماكينات الإعلامية العالمية الكبيرة في إطار الحرب النفسية، لتأليب المزاج الروسي، في حين أن روسيا لم تكن هي الساعية لاستهداف الرئيس الأوكراني والدليل على ذلك أنها لم تستهدف أياً من مقرات إقامته رغم إعلانها في أكثر من مناسبة أن لديها معلومات مؤكدة عن أماكن وجوده، ولكن المفارقة في هذه النقطة المتناقضة أن الزعماء الغربيين الطامحين لاستهداف بوتين وعزله باتوا اليوم خارج المشهد السياسي كرئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون ونظيره الإيطالي ماريو دراجي، والبعض من هؤلاء الزعماء الذين انخرطوا في خضم هذا الصراع وقادوه، هم على حافة الخروج من الحلبة السياسية ومنهم ربما الرئيس الأميركي جو بايدن.
بناء على ما سبق يمكن التأكيد بالقول: إن الصراعات هدفها على مستوى الفردي أو الجماعي أو على مستوى الدولة أو مجموعة الدول، هو ذاته لم يتغير منذ الأزل، ولكن وسائلها هي التي تغيرت، وذلك تبعاً للتداعيات المحتملة لهذه الصراعات التي من شأنها أن تحدث تحولاً جذرياً.