انفجار إسطنبول الذي وقع يوم الأحد في 13 تشرين الثاني الجاري الساعة 4:20 دقيقة في عصر يوم عطلة مشمس في أحد أهم معالم المدينة شارع تقسيم، حيث تقع أهم الوكالات التجارية، والقنصليات الروسية، والهولندية وغيرها من المعالم الأثرية الشهيرة، دفع خلفه عشرات الأسئلة، وإشارات الاستفهام، حول من المستفيد من هذا التفجير، وأي رسائل أراد إيصالها، ولماذا الآن؟
هناك من ذهب مباشرة لاتهام النظام التركي بتنفيذ هذا العمل لأهداف انتخابية من أجل شد الرأي العام التركي، والقول له: إن البديل للحزب الحاكم هو الفوضى، وعدم الاستقرار الأمني، وإن تركيا مستهدفة من كثير من القوى الإقليمية والدولية، ولابد هنا من شد العصب القومي قبل أشهر من الانتخابات المهمة في البلاد.
هذا احتمال، ولا يمكن القول إنه ليس وارداً، وخاصة أن تركيا لم تشهد عمليات إرهابية منذ عام 2017 سوى الهجوم على مركز للشرطة في مرسين، والذي اتهمت فيه السلطات التركية حزب العمال الكردستاني قبل نحو أكثر من 45 يوماً.
ما كان لافتاً التصريح الذي أدلى به وزير الداخلية التركي سليمان صويلو حيث قال: «لا نقبل التعزية من السفارة الأميركية، ونرفضها، نعرف من يدعم الإرهاب في شمال سورية، ونعرف الرسالة التي أرادوا إيصالها لتركيا من خلال هذا الهجوم»، مشدداً على أن «من يدعم المنظمات الإرهابية شمال سورية، هو من نفذ الهجوم ضدنا»، ونقلت وكالة «رويترز» عن الوزير التركي تشبيهه تعزية واشنطن بـ«القاتل الذي يمشي في جنازة ضحيته»، وأضاف إن أنقرة تثق بوقوف حزب العمال الكردستاني، ووحدة حماية الشعب وراء الانفجار، وإن واشنطن هي من تدعم وحدات حماية الشعب في سورية.
بعض المحللين يرون أن احتمال تورط حزب العمال الكردستاني أو جناحه السوري ضئيل، نظراً لأن هذه العمليات لا تخدمه حسب هؤلاء، لكن آخرين وهم كثر يربطون هذه العملية بمحاولة قطع مسار التقارب الذي يعمل عليه الحزب الحاكم مع حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، والذي ظهر من خلال مؤشرات عدة:
– قيام نواب من حزب العدالة والتنمية الحاكم بزيارة للكتلة البرلمانية لحزب الشعوب بهدف تخفيف التوتر، وتحسين العلاقات معه قبل الانتخابات.
– إخراج زعيم الحزب المسجون صلاح الدين ديميرطاش، وأخذه بطائرة خاصة لزيارة والده المتوعك صحياً في مدينة ديار بكر، وحسب المعلومات التي تسربت في تركيا فإن مفاوضات جرت معه قبل الخروج من السجن بأنه من الأفضل له أن يتعاون مع الحزب الحاكم قبل الانتخابات ولن يتم الإضرار به، ستتم المحافظة عليه كزعيم لحزبه يحظى بالاحترام، وهو ما دفع أحزاب المعارضة التركية لمهاجمة حزب الشعوب الديمقراطي، وزعيمه ديمير طاش بسبب استقبالهم لنواب العدالة والتنمية، وقبوله لشروط الحزب الحاكم، لكن ديمير طاش هاجم المعارضة كلها، وقال لهم: لسنا عصفوراً في جيب أحد، ولسنا ملكاً لأحد، ونحن جاهزون للتعاون مع أي أحد بما يخدم مصالحنا.
– الزيارة السرية التي تمت لـ عبد اللـه أوجلان في سجنه قبل نحو العام، وتسربت أخبارها قبل أشهر من رجل المافيا التركي المقيم في الإمارات سادات بكير، حيث قال آنذاك: «إن رئيس حزب وطن دوغو بيرنتشيك زار أوجلان سراً في سجنه بجزيرة إيمرلي، وأعلن أوجلان استعداده لخدمة مصالح الدولة التركية» وهو أمر لا يتقاطع مع توجهات قيادات قنديل وواجهاتها في الجزيرة السورية الذين تحولوا إلى أدوات بيد الولايات المتحدة الأميركية بشكل مفضوح ومكشوف.
هناك أيضاً من لا يستبعد تورط تنظيمات سلفية جهادية في هذا التفجير مع اتجاه أنقرة للتقارب مع دمشق إثر المباحثات الأمنية التي جرت في دمشق بين رئيس مكتب الأمن الوطني اللواء علي مملوك، ورئيس المخابرات حقان فيدان، وبدء خطوات متبادلة بين البلدين مثل التسويات، والمصالحات الواسعة في إدلب، والاستعداد لفتح المعابر بين مناطق سيطرة التنظيمات التي ترعاها تركيا، ومناطق سيطرة الدولة السورية كمرحلة أولى، إضافة إلى قيام أنقرة بالعمل على إعادة ترتيب صفوف ميليشياتها، وجماعاتها التي رعتها طيلة عقد من الزمن، مع ملاحظة أن هناك اعتقالات تتم بهدوء لأذرع هذه التنظيمات في الداخل التركي، وهو ما حصل من خلال أوامر اعتقال لأكثر من 11 مشتبهاً من المدعي العام في أنقرة، وقيل إنهم على علاقة بتنظيمات جهادية، وهذه الاعتقالات تتم بسرعة، وخاصة أن هناك خشية من تعاون هؤلاء مع أجهزة مخابرات أخرى لأنهم في الأساس مرتزقة، ومن يبيع وطنه لا ثقة لأحد به، وعندما ينتهي دوره، مآله إلى التصفية.
بغض النظر عن المتورطين في تفجير إسطنبول، لكن من الواضح تماماً أن الأشهر السبعة التي تفصلنا عن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية في حزيران 2023، ستكون مليئة بالأحداث والمفاجآت، وخاصة أننا أمام اتجاهين أساسيين واضحين:
1- الاتجاه الأول: يقوده الرئيس الحالي أردوغان، وحزبه الحاكم وحلفاؤه في حزب الحركة القومية، وتيارات أخرى، وبالطبع من مصلحة أردوغان الاستفادة من كل الظروف والأحداث، بما في ذلك التفجيرات بهدف الفوز في هذه الانتخابات، وهو الذي يدرك أن الغرب ليس مرتاحاً لمواقفه، وأن الدعم الروسي الواضح من الرئيس فلاديمير بوتين له، لن يكون بلا أثمان، ولا شك أن تحويل تركيا إلى مركز دولي لتوزيع الغاز الروسي لأوروبا، وإلى مركز لتوزيع الحبوب أيضاً، وإلى مكان للمفاوضات الروسية الأميركية بشأن أوكرانيا، لا يبدو بلا أثمان تريدها موسكو منه، وهو يدرك كغيره أن العالم يتحول، ولابد من استثمار هذه التحولات بما يخدم موقع تركيا، ودورها الذي تدعمه موسكو بوضوح شديد وبطريقة معقدة، ويبدو لي أن الصراع على تركيا سيشتد خلال الأشهر القادمة، وسنشهد الكثير من الأحداث قبل حسم نتائج الانتخابات فيها.
2- الاتجاه الثاني: تقوده المعارضة التركية بزعامة كمال كليتشدار أوغلو زعيم حزب الشعب الجمهوري، ومجموعة من الأحزاب الصغيرة الأخرى ذات الاتجاهات الإيديولوجية المختلفة، لكنها جميعاً تتفق على أن خيار تركيا يجب أن يكون نحو واشنطن، وأنه لا مكان لروسيا والصين وإيران في المستقبل إذا وصلوا إلى الحكم، إذ وصفتهم ميريل أكشنير زعيمة الحزب الجيد بـ«الأنظمة الاستبدادية المتعفنة»، كما أن كيلتشدار أوغلو زار واشنطن، ولندن، وخلال زيارته لأميركا اختفى لثماني ساعات قيل إنه أجرى لقاء سرياً مع الداعية فتح اللـه غولين حسب المعلومات في تركيا.
في كل الأحوال، اتجاهات المعارضة التركية واضحة، أطلسية بالمطلق، وحديثها عن سورية لا يتضمن ذكراً للانسحاب الأميركي، ولا رفضاً للمشروع الانفصالي لقيادة ميليشيات «قسد»، وطالما أن الخيار أطلسي فهو مضر للمصالح الوطنية السورية.
الخيارات في تركيا كتبنا عنها مرات عديدة، هي بين السيئ، والأسوأ، وهما خياران أشرت لهما أعلاه، ونجاح السيئ لا يعني أنه الجيد بالنسبة لنا، لكن علاقات حلفائنا مع الخيار السيئ قد تساعد في إيجاد الحلول، والتسويات مستقبلاً، ليس لأن أحداً ما قد هبط عليه الرحمن، وإنما لأن حجم المصالح المعروضة كبير، ولأن المشروع القديم لم يعد منتجاً، والعالم يتحول بسرعة كبيرة، والكل يقرأ هذه التحولات، فـ«الأسد باقٍ في عرينه»، وما على الجميع سوى ترتيب الحسابات وفق هذه الأجندة، كما أنه علينا ترتيب حساباتنا وفق هذه التحولات أيضاً.
يسألك البعض: هل يعني هذا أننا نقف مع أردوغان ضد معارضيه؟ وأجيب دائماً: هذا شأن داخلي تركي، إذ إن بقاء أردوغان هو بيد شعبه، ولا يعنينا من المسألة سوى كيف نصل لتحقيق مصالحنا الوطنية، وتحرير ما تبقى من أرضنا، والخيارات للأسف بين السيئ والأسوأ، وما علينا سوى البحث عن مصالحنا وطرق تحقيقها، فالقضية ليست عواطف، ومشاعر، بل خريطة معقدة تحتاج دائماً للعقل البارد، والقراءة المتأنية.