خلال مرابطتي التي دامت أكثر من نصف قرن على جبهة الحروف، حاولت دائماً، أن أفصل بين المتكلم والكلام، وأن أعبر عن احترامي لصاحب الرأي مهما تباين موقفي مع موقفه أو اختلف رأيي مع رأيه. إلا أن محاولاتي كانت تبوء بالفشل في معظم الأحيان، لأن الطرف الآخر غالباً ما كان يظن أنني خائف منه أو لست واثقاً من صحة رأيي في أحسن الأحوال!
في أواسط ثمانينيات القرن الماضي كتب (أحدهم) مقالاً عني اجتزأ فيه كلامي وحرَّفه بحيث أدى نقيض معناه. لكنه لم يكتف بذلك بل نسب لي أشياء لم أفعلها وكلاماً لكاتب آخر كنت قد فندته في مقالي!
عرضت المعطيات على رئيس التحرير آنذاك، الأستاذ عميد خولي، أطال الله في عمره، فأمرني بطريقته المميزة أن أكتب رداً على المفتري «أمسح فيه الأرض». يومها كتبت مقالاً أوضحت فيه نقاط الافتراء والخطأ في مقال الرجل وأنهيته بمثل أفريقي مفاده: «حتى لو بدا العود في مجرى النهر يتلوَّى كأفعى، فهذا لا يغير حقيقة أنه مجرد عود».
يومها قرأ الأستاذ عميد ردي ثم نظر إليَّ باستغراب يشبه الإشفاق وقال: «مجرد عود! قلت لك: امسح فيه الأرض! أهذا كل ما طلع معك!».
لست أذكر بماذا أجبت الأستاذ عميد يومها لكنه مزق ردي وكلف أحد الزملاء بأن «يمسح الأرض» بالرجل، ففعل ذلك بالطريقة السائدة، وقد ظلت أرض الجريدة تلمع طوال شهر كامل!
قبل ثلاثة أسابيع توقفت في هذا الركن عند ظاهرة «الاستغراب»، أي عكس الاستشراق، وأشرت إلى كلام نشره شخص يصف نفسه بأنه «كاتب وباحث وشاعر يقيم في الدانمارك»، جاء فيه بلهجة قاطعة مانعة إن «العرب لم يقدموا شيئاً للحضارة البشرية»! كما توقفت عند «مستغرب آخر» سمح لنفسه أن يقول: «أكبر إنجاز حققه العرب في التاريخ هو تمكنهم من فرملة العقل عن أداء دوره في التعمير وتحويله إلى أداة للتدمير».
وقد قلت في آخر مقالي بوضوح: «صحيح أن حالتنا الراهنة نحن العرب بالغة السوء لكن هذا لا يبرر لبعض (المستغربين) من أبنائنا أن يأكلوا لحمنا ونحن أحياء»!
وقد كانت مفاجأتي بليغة وبالغة عندما اكتشفت أن كثيرين من أصدقائي الافتراضيين على الفيس بوك قد ناصروا ما ذهب إليه هؤلاء، بل قام آخرون باختطاف الحوار إلى جهة معلومة، خلاصتها إن كل الذين أبدعوا باللغة العربية ليسوا من العرب… الخ!
أومن أن «الهوية هي حلبة الصراع الحقيقية بيننا وبين العدو». كما قال المفكر وعالم الاجتماع المصري عبد الوهاب المسيري، والحق أن مسألة الهوية أكبر من أن تثار في أقل من خمسمئة كلمة، إلا أنني أود أن أذكركم بما جاء في ختام الحوار الطويل الذي أجراه سعد الله ونوس مع أنطون مقدسي لأجل كتاب «قضايا وشهادات»، حيث قال المفكر أنطون مقدسي بأنه ذهب إلى فرنسا وهو منخرط كلياً في الثقافة الفرنسية وكل شيء فيه يقول للفرنسيين إنه منهم يتكلم لغتهم ويؤمن بما يؤمنون به، لكنه كلما اقترب منهم كان يشعر بهم يدفعونه بعيداً ولسان حالهم يقول، أنت مختلف، أنت آخر. وهكذا عاد أنطون مقدسي من فرنسا مفكراً قومياً عربياً.
إن أخوتنا الذين يكفرون بقومهم وبتاريخهم وهويتهم بسبب استيائهم من أوضاعنا الحالية يذكرونني بتلك الأم المسكينة التي غسلت ابنها ثم رمته مع الماء القذر الذي غسلته به.