منذ الحرب العالمية الثانية حتى الآن تشن الولايات المتحدة حروبا وأشكال عدوان أخرى على دول وشعوب كثيرة وتفرض على العالم الذي يتحالف معها بأن حروبها قانونية وشرعية ولا تتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة. ومنذ انتهاء الحرب الباردة بانهيار الاتحاد السوفييتي وتراجع دور موسكو في الساحة الدولية شنت الإدارات الأميركية حروباً في أوروبا في نهاية التسعينيات لتفكيك الاتحاد اليوغوسلافي إلى دويلات صغيرة، ثم قررت احتلال أفغانستان عام 2001 بحجة محاربة الإرهاب بعد تفجيرات شنها إرهابيون متطرفون في نيويورك وواشنطن ولم يكن من بينهم واحد من أفغانستان، ثم احتلت عام 2003 العراق بحجة محاربة الإرهاب أيضاً ودون أن تثبت شيئاً من هذا الاتهام، ثم احتلت جزءا من شمال شرقي سورية بحجة محاربة داعش الإرهابية، وعدت واشنطن كل هذه الحروب شرعية وكل من يقف ضدها خارج على القانون الدولي بل وإرهابي، لكن الولايات المتحدة لا تستطيع أو تجرؤ على شن مثل هذه الحروب الشاملة على دول إقليمية كبيرة أو كبرى لأنها تعرف الثمن الباهظ الذي ستدفعه، ولذلك تعاملت مع الدول المناهضة لهيمنتها مثل إيران القوة الإقليمية الكبرى في المنطقة ومثل سورية، ومع روسيا القوة العظمى بأشكال أخرى من الحروب مثل العقوبات والحصار وتحريض الدول المجاورة ضدها وخلق التوترات بداخل تلك الدول والتحريض على الحروب الأهلية فيها، وهذا يعني أن آلة العدوان والحروب التي تشنها الإمبريالية الأميركية لا تتوقف بل تتخذ أشكالا أخرى بحسب قوة وقدرات هذه الدولة أو تلك مثل الاستفزاز والحصار، وهذا الشكل من الحروب تمكنت إيران وسورية من صدها وإحباط أهدافها.
أما الحرب الأميركية الغربية المتواصلة والمكثفة ضد روسيا منذ شباط الماضي فقد كشف جورج أونيل في 16 تشرين الثاني الجاري في مجلة «أنتي وور» الأميركية المعارضة لحروب واشنطن في تحليل تحت عنوان: «مسؤولية الدمار في أوكرانيا تقع على عاتق الدولة العميقة في واشنطن» أنه «منذ الحرب في أوكرانيا قامت وسائل الإعلام والقادة والمنظمات التي يطلقون عليها غير حكومية في كل أنحاء أميركا وأوروبا الغربية، بالدفاع عن حربهم هذه بادعاء أنهم لم يلجؤوا لأي استفزاز متصاعد ضد روسيا قبل شباط الماضي وأن روسيا شنت حرباً غير عادلة ودون مبرر ولا يمكن إلا التصدي لها»، ويؤكد أونيل أن الحقيقة هي أن الإدارات الأميركية والمخابرات والمؤسسة العسكرية كانت جميعاً خلال عقود ماضيه تهدد روسيا وتكثف استفزازها لها بهدف توسيع دائرة الحلف الأطلسي باتجاه حدود روسيا، وكانت القيادة الروسية تدرك الغاية الغربية وأخطارها الإستراتيجية على روسيا وتعد كل توسع عملاً عدوانياً واضحاً يهدد أمنها القومي.
ويؤكد أونيل أن «وزير الخارجية الأميركي عام 1990 جيمس بيكر تعهد رسمياً بعدم توسيع دائرة دول الأطلسي إلى حدود روسيا مقابل انسحاب روسيا من ألمانيا الشرقية، وانسحبت روسيا منها، وكان بيكر قد قام بالخطوة الصحيحة».
لكن واشنطن ودول أوروبا الغربية بدأت منذ عام 1999 باتخاذ خطة لتوسيع الحلف إلى حدود روسيا وخاصة بعد تفتيت شعوب أوروبا السلافية في يوغوسلافيا الحليفة التاريخية لروسيا، وفي عام 1998 حذر جورج كينان أهم محلل سياسي أميركي في مقابلة مع توماس فريدمان في صحيفة «نيويورك تايمز» من مخطط كهذا وقال «إنها بداية حرب باردة جديدة وأعتقد أن روسيا لن تصمت وسوف ترد بشكل هادئ وسيكون الغرب قد ارتكب خطأ استراتيجياً فادحا». وتجاهل المعنيون تحذيره وبدأ حلف الأطلسي بقيادة واشنطن بحربه في الساحة اليوغوسلافية عام 1999 لتفتيت يوغوسلافيا وحرمان روسيا من حليف في قلب أوروبا، ويكشف أونيل «أن رئيس وكالة المخابرات المركزية الآن وليام بيرنز كان مساعدا لوزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر في قسم التخطيط حين تعهدت واشنطن عام 1990 بعدم توسيع دائرة الأطلسي وقال في تقرير لوزيرة الخارجية كونداليزا رايس إن الروس كلهم وليس بوتين وحده لن يتحملوا وجود أوكرانيا على حدودهم عضواً في حلف الأطلسي»، ويضيف أونيل أن «فيكتوريا نولاند التي كانت ممثلا للولايات المتحدة في قيادة الحلف الأطلسي عام 2005-2008 ثم أصبحت مساعدة وزير الخارجية لشؤون أوروبا ويوروآسيا 2013 -2017 قالت علنا في ندوة في كانون الأول عام 2013 إن واشنطن أنفقت خمسة مليارات دولار خلال عشر سنوات في أوكرانيا لإسقاط الحكومة الموالية لموسكو في كييف واستبدالها»، ويؤكد أونيل أن واشنطن تمكنت بعد عام من «إجراء انقلاب مباشر في أوكرانيا على طريق ضمها للحلف» فسارعت روسيا إلى دعم مناطق المواطنين الروس داخل أوكرانيا وضم جزيرة القرم لأنها تعرف أن الحرب المقبلة التي يعدها الغرب هي ضم أوكرانيا للحلف، وها هي روسيا تخوض منذ شباط الماضي حرباً دفاعية بوساطة عمليتها العسكرية في أوكرانيا للتصدي لحرب ستنتصر فيها موسكو وستكون آخر الحروب التي تشنها واشنطن على دولة كبرى في أوروبا أو على دول أخرى إقليمية في العالم.