بستان الكلام!
| عصام داري
عندما يستعد أي كاتب أو إعلامي للبدء في الكتابة، يخلق جوه الخاص الذي يجعله يحلق في عالم حقيقي أو افتراضي أو حتى خيالي ليصل إلى لحظة إبداع يرسم فيها لوحة منسوجة من كلمة سحرية تشكل مع شقيقاتها الكلمات قصيدة شعر حالمة، أو قصة أو رواية أو مسرحية تضاف إلى السجل الحضاري للبشرية على كوكبنا الأزرق.
قبل أن أبدأ برسم كلماتي هذه توهجت في فكري صورة خيالية جميلة، رأيتني أفتح بوابة خشبية عتيقة على بستان بوسع الفضاء الشاسع، لكنه ليس كبقية البساتين، فأشجاره لا تحمل الثمار اليانعة، وأزاهيره لا تتفتح في مساءات ربيعية حالمة، هو بستان الكلام وكفى.
أختار من ثمار وأزاهير بستاني هذا ما يحلو لي، وما أتوق إلى ترجمته عبارات وجملاً تحكي قصصنا في هذه الدنيا: الحزينة والمفرحة، الرومانسية والواقعية، بين الواقع والخيال، وبين الأحلام والكوابيس، وفي كل ما نكتب يجب أن نكون مقنعين لمن سيقرأ، بل يجب أن نجعل القراء يستمتعون بكلماتنا وعباراتنا، ويجدون لذة وهم يتابعون السرد الشيق والرشيق.
قد يكون الكاتب حزيناً، لكنه مطالب في هذه اللحظة من الزمان أن يعلن فرحاً، وينشر من خلال الكلمة جواً من السحر والسعادة والحبور، وعليه أن يمثل الفرح فينطبق عليه بيت الشعر الذي يقول:
لا تحسبوا رقصي بينكم طرباً
فالطير يرقص مذبوحاً من الألم
وهناك الكثير من الأغاني التي تخدم فكرتي هذه، فالراحل فريد الأطرش يغني:
عينيّ بتضحك.. وقلبي بيبكي.. وإيه بس آخرة بكاي وضحكي
والغريب أن فريد الأطرش يعتبر من أكثر المطربين الذين غنوا الأغاني الحزينة، والتي لا مجال لذكرها، بما في ذلك أغنية يوم مولدي التي تحمل كل التشاؤم، لكنه في حياته كلها كان فرحاً وسعيداً، لم يعرف الحزن إلا فيما ندر، ولعل أغنية «بتبكي يا عين على الغايبين» هي الأغنية الوحيدة لفريد الأطرش التي لامست حدثاً حزيناً في حياته، إذ كان ينعى ويبكي فيها شقيقته أسمهان «أمال الأطرش» التي ماتت في ظروف غامضة.
ولأننا نتوق إلى الأفضل في كل شيء، وفي الكتابة طبعاً، نقطف من بستان الكلام أروع الكلمات، ونرصفها جنباً إلى جنب لتخرج قطعة أدبية أو قصيدة شعر، أو أغنية أو لحناً يطرب الناس، عندها فقط يتبخر الحزن والكآبة من نفس الكاتب ليحل مكانهما الرضا والفرح، ففرح الكاتب هو لحظة ولادة فكرة، لكن الفرح الأكبر يأتي لحظة النجاح في ترجمة الفكرة إلى حقيقة ملموسة.
في الختام يجب أن أعترف أن بستان الكلام هو الذي أنقذني اليوم، وأخرج من حقوله وأزاهيره وأشجاره، هذه الزاوية التي قرأتموها للتو، فأشكر البساتين الوارفة والجنات البديعة التي تمدنا بجميل الكلام وبديع الأوصاف، وتجعلني شخصياً سعيداً بأصدقائي الكثر الذين يقرؤون من أسبوع إلى أسبوع ما يجود علي به بستان الكلام، والجني الصغير الساكن في عقلي وفكري، وهو جني الشعر والنثر والإبداع، وأعترف أن هذا الجني الساكن في «وادي عبقر» يخذلني في كثير من الأحيان، فهل خذلني اليوم أيضاً؟.