ولد شاعرنا (أبو الفضل العباس بن الأحنف بن الأسود بن طلحة بن جدان بن كلدة) من بني عدي بن حنيفة اليمامي في اليمامة على أرجح الأقوال عام 103ه وتوفي 188ه، لكنه نشأ في بغداد، حيث عاش سحابة أيامه، واتصل بالخليفتين العباسيين (المهدي والرشيد) دون أن يمدحهما، ومع هذا حظي بتقديرهما.
ولهذا لا يُقال في (العباس بن الأحنف) أفضل من القول: (إنه شاعر قصر شعره على الغزل)، فلم يمدح ولم يهج على عادة شعراء ذلك الزمان الذي عاش فيه الشاعر خصوصيته الشعرية في وسط كان يعجّ بالمعاني المؤدية إلى الكسب السهل الممتنع في الوقت نفسه، ففي العصر العباسي الذي ازدحم بالجواري وخلاعتهن التي أسرفت كثير من كتب التاريخ الأدبي في توثيقها كحكايات طريفة أبطالها شعراء ذلك الزمن آنذاك بين المديح والهجاء والفخر والرثاء، وكثير من الغزل الصريح، عن درب منسي سبق أن سار عليه في العصر العربي الإسلامي الأول، مجموعة من الشعراء سموا بالعذريين، وكان الغزل العفيف مادتهم الشعرية الوحيدة، فوجد العباس ضالته في تلك المادة، واتخذ من أولئك العذريين مثلاً شعرياً جدد فيه ليصير خاصته وخصوصيته.
تميزت قصيدة (العباس بن الأحنف) ليس بموضوعها الغزلي الصرف فقط، بل أيضاً برقة ألفاظها وخفة بحورها وعذوبة موسيقاها ورصانة لغتها وحواراتها القصصية ذات النفس الدرامي الذي أضاف لها خواصاً فنية ممتعة شجعت المغنين وصنّاع الألحان في ذلك العصر على الاستفادة منها في صناعتهم التي بلغت أوجها في قصور الخلفاء والأمراء آنذاك، وكما كان غزل العباس بن الأحنف دليله نحو تلك القصور المترفة، وكان عشق (العباس بن الأحنف) لـ(فوز) عنوانه الشعري الأبرز، فلم تكن محبوبته الأثيرة فقط، بل كان موضوعه الغزلي الأوحد تقريباً، إذ كتب فيها جلّ شعره ولم يغادر إلا باتجاه عنوان شعري مشابه، بطلته امرأة تدعى (ظلوم)، أما بقية العناوين فلم يبق لها سوى فتاة لم تحتل من ديوانه إلا هامشاً ضيقاً جداً لا يكاد يظهر فيما ترك وراءه من قصد.
وقد احتفظت لنا كتب الأدب برواية عن وفاته لها أثر على سيرة الشاعر العاطفية وطباعه الشعرية تحديداً، وتقول الرواية ذات النفس الأسطوري التي يرويها (المسعودي) في كتاب (مروج الذهب) على لسان جماعة من أهل البصرة، إن الشاعر العباس بن الأحنف مات عند ذهابه إلى الحج، بعد أن دفنه جماعة من الحجاج من أهل البصرة هناك، ومن قصيدة له وهو يعاتب حبيبته (ظلوم):
أظلوم حان إلى القبور ذهابي
وبليت قبل الموت في أثوابي
فعليك يا سكني السلام فإنني
عما قليل ما عملت حسابي
جرعتني غصص المنية بالهوى
أفما بعيشك ترحمين شبابي
سبحان من لو شاء سوّى بيننا
فأدال منك لقد أطلتِ عذابي
وفي قصيدة أخرى معاتباً معشر المحبين والأصدقاء إذ يقول:
أبكي الذين أذاقوني مودتهم
حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا
واستنهضوني فلما قمت منتصباً
بثقل ما حملوا من ودّهم قعدوا
جاروا عليّ ولم يوفوا بعهدهم
قد كنت أحسبهم يوفون إن عهدوا