ثقافة وفن

زاره كابلان الأوفر حظاً بين الرواد المجهولين … تجربة جمعت بين مختلف المدارس الفنية الحديثة في العالم من الهندسة إلى الدراسة الحرة والاطلاع على الأعمال العالمية

| سعد القاسم

سعت الحلقات السابقة من هذه السلسلة لتوثيق بدايات الفن التشكيلي السوري بالاعتماد على ما هو متوفر من نصوص عن رواده، سواء على الورق أو في المواقع الإلكترونية المختصة، والموثوقة، وكذلك على ما أمكن الحصول عليه من معاصرين للرواد، ومن أصدقاء ومقربين. وقد ساعد في هذا إقامة بعض الأبناء مواقع خاصة بالآباء ضمنوها صوراً لأعمالهم، وأحياناً بعض النصوص والمعلومات. وهو أمر لا يندرج تحت عنوان الوفاء أو بر الوالدين فحسب، وإنما أيضاً تحت العنوان الكبير لحفظ الذاكرة الثقافية الوطنية. وغير مرة ساهمت التعليقات والتعقيبات في تصحيح معلومة وردت في هذه الحلقات بما يعزز غايتها، ويؤكد طبيعتها كخلاصة جهد ثقافي جماعي عابر للزمان والمكان.

المعلومات القليلة

ومع كل ما سبق، والمتضمن شكر وتقدير كل من ساهمت نصوصهم وتعقيباتهم – وما تزال- في استكمال المشروع، فإن معلومات مهمة ما تزال غائبة عنه. وخاصة لبعض الرواد الذين تتردد أسماؤهم في سير بعض الفنانين الكبار بما يؤكد أهميتها وقوة تأثيرها، من دون أن تتوافر معلومات وافية عنهم، أو صور لأعمالهم، أو كليهما معاً، فقد ورد أثناء الحديث عن رشاد مصطفى أحد أهم ممثلي التيار الواقعي الطبيعي في جيل الرواد. أنه حين كان يحاول رسم رأس حصان، قبل أن يدخل المدرسة الابتدائية رسم له أبوه حصاناً كاملاً ما خلق حافزاً عند رشاد الطفل لتطوير مهاراته عن طريق نقل الصور الفوتوغرافية، لكننا لا نعرف شيئاً عن الأب ولم نشاهد أياً من رسومه. وكذلك الحال مع أبي الفنان أنور أرناؤوط.

التأثر والتأثير

حيث يتحدث عبد القادر أرناؤوط استناداً لنص قدمه عدنان العطار كأطروحة جامعية في جامعة دمشق (1955-1954) عن تأثر أنور أرناؤوط بالمدرسة الروسية البيزنطية عن طريق والده محمد علي الأرناؤوط، وصديق والده عبد الحميد عبد ربه، وتوفيق طارق «الذين درسوا في مدرسة الفنون الجميلة العليا باسطنبول وتتلمذوا على يد الفنان الروسي عيوازوسكي» وهي معلومة غير متداولة فيما يخص توفيق طارق الذي نعرف أنه درس في باريس، ولا بالنسبة لعبد الحميد عبد ربه الذي نعرف اسمه من خلال السير الشخصية لفنانين رواد درسوا على يديه، من دون أن يتاح لنا رؤية شيء من أعماله. وكذلك الحال بالنسبة لمحمد علي أرناؤوط الذي لا نعرف شيئاً عن اهتمامه الفني سوى ما ورد في النصوص التي تحدثت عن ابنه أنور. ويضيف عدنان العطار أن أنور أرناؤوط تأثر «بالمهندس عارف بك والضابط الأرناؤوطي خليل باشا عقرانيا الذي كان لواءً ومن أصدقاء والده ويتردد على بيته فكان يوجهه لنقاط الضعف في رسومه البدائية آنذاك». وأيضاً لم يصلنا شيء من أعمالهما، وجاء في سيرة ناظم الجعفري أن شوقي بلال استاذه في الصف الرابع الابتدائي قد اكتشف بذور الموهبة الفنية في خطوطه، فأخذ بيده وشجعه، حتى بات يتقن رسم نماذج زخرفية تتدرج في مستوياتها. ثم شارك بمسابقة للتعبير من أجل الانتساب إلى مكتب عنبر، أول مدرسة تجهيزية بدمشق، ونجح فيها، وكان الأستاذ جورج خوري مدرس مادة الرسم في المدرسة فأفاده بخبرته، ولم يصلنا أي شيء عن شوقي بلال، فيما يتكرر اسم جورج خوري في سيرة أكثر من فنان، ويتحدث ناظم الجعفري في سيرته الذاتية عنه بإسهاب، وعن عمله معه في تنفيذ رسوم جدارية لبيوت أثرياء معروفين. لكننا في كل الأحوال لم تتح لنا مشاهدة أي من أعماله. حتى الآن على الأقل. وينقصنا الكثير من المعلومات عن سمارة السمرة. كما هو حال الرائد الحلبي منيب النقشبندي (1969-1890) أول مدرس للفنون في المكتب السلطاني (ثانوية المأمون) بحلب، الذي تأسس مطلع القرن العشرين وكان من طلابه غالب سالم أحد رواد الفن التشكيلي الحديث في حلب وقد توسط له عند الزعيم هنانو لإيفاده للدراسة في روما، فكان أول فنان حلبي يدرس الفن دراسة أكاديمية، (نُشرت عنه حلقة خاصة ضمن هذه السلسلة في حزيران/ يونيو الماضي). لم يصلنا عن النقشبندي سوى صورة فوتوغرافية شخصية ضعيفة. أما لوحاته فقد أخبرني صديق حلبي قبل وقت قصير أن هناك عدداً منها لدى مهتم بالفن التشكيلي، ووعد بمساعدتي على الاطلاع عليها.

كابلان والبيوت

قد يكون زارة كابلان (1911-1982) الأوفر حظاً بين هؤلاء جميعاً فقد وصلتنا ثلاث من لوحاته: الأولى، والأشهر، تحمل عنوان (بيوت) التي عرضها في معرض الخريف عام 1959 وفيها ملامسة للتجريد الهندسي، ربما بتأثير الاختصاص، وقد اقتنيت من وزارة الثقافة أو المتحف الوطني (بانتظار تأكيد السيدة هيام دركل). واللوحة الثانية (منظر حي قديم) وفيها بعض التأثيرات الانطباعية، وهي مغفلة التاريخ. والثالثة من مقتنيات الفنان جورج عشي، وقد عرض صورتها منذ وقت قليل على صفحته في «فيسبوك» وتصور مشهداً طبيعياً بتأثيرات انطباعية أوضح، وتعود لعام 1960. وإلى ذلك كانت المعلومات عن كابلان أكثر وفرة بفعل مقالة كتبها عنه الفنان والناقد محمود مكي، ونُشرت في صحيفة (الجماهير) الحلبية في1-3/2012. وهي المصدر الأساس لكل المعلومات حول سيرته الحياتية والإبداعية.

زاره كابلان مهندس وفنان تشكيلي أرمني الأصل ولد في القاهرة من أب فلسطيني كان يعمل مراسلاً للصحف الأرمنية. ‏ درس الهندسة والتخطيط العمراني في باريس. ودرس الفن دراسة حرة من خلال اطلاعه على الأعمال الفنية العالمية أثناء ذلك. ‏ قدم إلى حلب عام 1948 ليترأس فرع هندسة البناء في كلية الهندسة المحدثة فيها بموجب عقد خاص من منظمة (اليونسكو) لتطوير التعليم في الدول المستقلة، حيث أنجز عدة تصاميم هندسية معمارية، أو شارك فيها، منها مشفى طب العيون الخاص للدكتور جبه جيان، وهو من أوائل مشافي حلب والشرق الأوسط. كما قام عام 1955 بتصميم وبناء المسرح الجامعي.

حلب والحركة التشكيلية

ساهم زاره كابلان بشكل فعّال في تطوير الحركة التشكيلية في مدينة حلب التي عاش فيها أكثر من عشرين عاماً، وأقام في بيروت فترة قصيرة منها في بداية الستينيات، عاد بعدها إلى حلب ليتابع نشاطه فيها، ثم غادرها نهائياً عام 1972 واستقر في باريس إلى أن توفي فيها. ساهم في تأسيس معهد (صاريان) للفنون عام 1950 مع زملائه (ارميس وجبه جيان) وترأس إدارته، ودرَس فيه، حتى رحيله إلى باريس. ‏ شارك في المعارض الرسمية في الخمسينيات، وقدم في معرض الخريف بدمشق عام 1959 لوحته الشهيرة (بيوت) التي تصور مجموعة من البيوت المتراكبة والمتقاربة إلى بعضها بعضاً، منتشرة على شاطئ البحر الذي يحوي بعض الزوارق، اعتمد في رسمها على الخطوط المستقيمة الأفقية والعمودية والمنكسرة التي تحصر بداخلها مجموعة من الألوان المحلية، معتمداً على المدارس التجريدية والتكعيبية بألوان انطباعية. وتدل اللوحة على متانة التصميم والتشكيل، وتظهر بوضوح مقدرته في البناء الهندسي، المنسجم مع المساحات اللونية، وقدرته أيضاً، على إعداد اللون وتشكيله ما يدل على تأثير دراسته الهندسية في أعماله الفنية. ‏وكانت تجربته بشكل عام مستوحاة من عدة مدارس فنية حديثة كالتجريدية والتكعيبية والانطباعية الجديدة، ولكنه صب اهتمامه الكبير على المدرسة الانطباعية الفرنسية التي تأثر بها بقوة أثناء دراسته الهندسة المعمارية في باريس، مضيفاً إليها تأثيرات اللون المائي وانسيابه على السطح بكثافة، ليقدم مفهوماً جديداً للانطباعية المتحررة من القيود المدرسية، وذلك بمزجها بالواقعية الجديدة، متأثراً بالفنان الحلبي الرائد منيب النقشبندي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن