لعل الضائقة المالية الموجعة جداً التي تعيشها شريحة من السوريين، ليست غير مسبوقة. لقد عرفنا ما يشابهها تماما في بداية الثمانينيات، فكيف واجهناها وصبرنا عليها وتخلصنا منها في النهاية…..؟
وكانت نسبة تلك الشريحة آنذاك أكبر من نسبتها الراهنة، إذ لم تكن الحوالات شائعة، علما أنها تغذي الآن 80 بالمئة من احتياجات السوريين. (ورد هذا الرقم في عدة دراسات اقتصادية، أهمها دراسة للدكتور هاني الخوري تصلح كتاباً مرجعياً، لخصها في سياق محاضرة ألقاها في المركز الثقافي العربي /أبو رمانة/ بدمشق في العام الحالي 2022، ونشرت هذا الملخص كاملا، جريدة الوطن في حينه).
وضمن الـ20 بالمئة الباقية، فئة لا تتلقى مساعدات من الأبناء والأهل أو الجمعيات الخيرية، وهي مضطرة أن تعيش على الحد الأدنى للأجور وقد بات وكأنه لا يعني شيئاً في السوق، وهذه الفئة، وجلها من المتقاعدين أو من العاملين غير المحتكين مع المراجعين، تحتاج حاجة ماسة إلى منافذ البيع الحكومية التي تبيع السلع والمنتجات الضرورية- الغذائية- بشكل أساسي، بأسعار تتلاءم ورواتبها وأجورها.
إن هذه الفئة الأشد فقراً وعوزاً، يجب أن تحصل شهرياً على احتياجاتها الأساسية من المواد الغذائية (لحوم- سكر- رز-برغل- عدس- حمص- فول- زيت نباتي وبلدي- بيض- شاي- متة- بن) بسعر مدروس، خال من الأرباح الفاحشة ذات القفزات الأسبوعية، إلى جانب التوسع في منافذ بيع الألبسة والأحذية، وفصل الخضر والفواكه عن السلع الغذائية والتشدد في تطبيق مبدأ إلغاء الوسيط والبيع بسعر الشراء من الحقل بعد إضافة النفقات الضرورية والصناديق والنقل والأعمال الإدارية
وتضطرنا اللحظة الراهنة إلى التعامل مع عدد سكان مضاعف بالمقارنة مع مطلع الثمانينيات، أدى إلى زيادة كبرى في عدد المساكن والأحياء السكنية.
وهذا يعني أنه إلى جانب اقتصار دور المنافذ الحكومية التابعة للسورية للتجارة، على بيع هذه السلع تحديداً، يجب زيادة عددها عشر مرات على الأقل وتوسيعها وجعلها ملائمة شكلاً ومضموناً لدورها التمويني، لجهة التنظيم الدقيق، بالاعتماد على البطاقة الإلكترونية، والنظافة التامة، والحماية من الشمس الحارقة والأمطار والبرد الشديد.
ستجسد تلك المنافذ المعنى الحقيقي لمفهوم التدخل الإيجابي، إذ ستعتمد أسعارها كمرجع لكل المواطنين.
وقد لا تكون كل المواد المشار إليها مدعومة، يكفي أن تكون أسعارها-نظامية- وحتى إذا كانت مدعومة، فإن ربحها سياسي، وهذا مهم جداً جدا، ويمكن تعويض الخسائر من أماكن أخرى يرتادها أو يستخدمها أثرياء اللحظة الراهنة وهم كثر.
وهذا هو التكافل الاجتماعي، فإذا كانت الدولة بكل مكوناتها وقدراتها وتضحيات العاملين معها ومنهم الكثير من الشهداء وجرحى الحرب، قد حمت ورعت وأتاحت لهؤلاء أن يصبحوا أثرياء أو أن يضاعفوا ثرواتهم عشرات المرات، فإن من حقها أن تحصل منهم على نسبة ما على شكل تحجيم للتهرب الضريبي على الأقل، أو أي شكل آخر حضاري، لاستمرار الحياة ولصون المبادئ والثوابت، وتعميق المسار الوطني والقومي الصائبين.
وإذ أشدد على أن الاحتضان الحكومي لاحتياجات تلك الشريحة، حتى ولو كان خاسرا ماليا فهو رابح سياسياً، ومرة ثانية هذا مهم جداً جدا لاستمرار المسار الصائب، المحارب على يد قوى عالمية شرسة، وهذا الاحتضان في ظل عدم القدرة على مضاعفة الرواتب والأجور عشر مرات على الأقل، يتطلب تعميق نهج الطبابة المجانية والتعليم المجاني والنقل العام الحضاري.
إن الإقبال بحماسة على هذا النهج الملائم، لرواتب من الصعب النهوض بها وبعثها من جديد، لتكون فاعلة وقادرة ومفيدة، هو الحل الأمثل لحياتنا المعيشية.