عودة العلاقات السورية التركية وسياسة التسريب بالتسريب.. لماذا يبدو الهدوء السوري مستفزاً؟
| فراس عزيز ديب
«لا خلافَ أبدي في السياسة»، بهذهِ العبارة أعادَ رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان ملفَ عودة العلاقات السورية التركية إلى الواجِهة بعدَ أن كادَ الحديث عن الموضوع يتوه بينَ أقدام اللاعبين في كأس العالم وأيادي اللاعبين في الحرب الأوكرانية، وحدها التصريحات الرسمية التركية تُعيد الملف إلى الواجهة فورَ خروجهِ من شريطِ الأخبار عبرَ تصريحاتٍ إما على مستوى الرئاسة التركية أو المستويات الأدنى من وزراء وسياسيين كما فعلَ حليف أردوغان وزعيم الحركة القومية دولت بهتاشلي الذي دعا إلى فتح لقاء مع رئيس الجمهورية العربية السورية والعمل بإرادةٍ مشتركة ضد المنظمات الإرهابية، لكن تصريحات بهتاشلي لا يمكن قراءتها من خلال دعم سياسي لأردوغان بقدر ما هي دعم سياسي لخيار العودة بالعلاقة مع سورية نحو المسار الصحيح، تحديداً أن باقي أطراف المعارضة التركية ليست بواردِ دعم خيارات كهذه أو أنها تستخدم عبارات مطاطة للهروب من الموقف الصريح كما فعلَ في آب الماضي رئيس حزب المستقبل ورئيس وزراء تركيا السابق أحمد داود أوغلو الذي وضعَ شروطاً على ما سماه «النظام السوري» لبدءِ عودة العلاقات معهُ بدت مثيرة للشفقة ليست فقط لمتطلباتها التعجيزية لكن لطرحها من أشخاص لا يملكون وزناً سياسياً فاعلاً، معتبراً أن السعي التركي باتجاهِ «نظام الأسد» يأتي بضغوطٍ روسية وهو لا يمكن القبول به.
لكن على الجهةِ المقابلة فإن كل هذه التصريحات التركية قابلها حتى الآن هدوء رسمي سوري اعتدنا عليهِ في الكثير من الملفات لدرجةٍ يبدو فيها هذا الهدوء مستَفزاً عند من يقرأ في الإطار الضيِّق انطلاقاً من تساؤلات تبدو منطقية لكنها لا تحيط بالصورة كاملة على طريقة، وماذا ننتظر؟ أو ما المشكلة إن كان هذا اللقاء سينهي الكثير من المآسي؟ وغيرها الكثير من العبارات التي تغرد خارج سرب الواقعية.
مبدئياً لنتفق على أن النظام التركي حتى الآن ومنذ انطلاق المبادرة الإيرانية في شهر تموز الماضي لم ينفذ أياً من الالتزامات البديهية لعقدِ مصالحة أو انفتاح كهذا، ما زال الجيش التركي يحتل أجزاء من الشمال السوري بل يسعى جاهداً لتوسيعهِا، ويدعم بشكلٍ مباشر أو غير مباشر الجماعات الإرهابية هناك، وهما مطلبان أساسيان لا يمكن للعلاقات أن تذهب بعيداً بمعزلٍ عن تحقيقهما، المشكلة أن بعض الوسطاء يرون الأمر فقط من زاوية معاني لقاء الرئيس بشار الأسد برجب طيب أردوغان لكن لا أحد منهم يجيب حتى الآن عن معاني هذا اللقاء في ظل وجود قوات الاحتلال التركي على الأراضي السورية والدعم المباشر للجماعات الإرهابية هناك وفرضَ سياسة تتريكٍ واضحة، لقاء كهذا سيكون حُكماً صك براءة للنظام التركي عن هذهِ الأفعال وهو إن لم يعد النظر بهذه التصرفات كشرطٍ للمصالحة فلن يفعل ذلك بعدَ أن تتم، على العكس عندها ستظهر الدولة السورية كحكومة تتعاطى مع احتلال، على هذا الأساس وقبل أن يرمي البعض تصريحات هنا وهناك بشكلٍ مباشر أو غير مباشر عن نجاحِ وساطته أو قبول الحكومة السورية بما لم تصرِّح عنه بحثاً عن انتصار سياسي في ملف العلاقات السورية التركية، عليهِ أن يدرك أن الجانب السوري قادر بالنهاية على التعاطي الأسلوب ذاته عندما تخرج فكرة المبادرة عن أهدافها، هل عن عبثٍ نقلت وكالة الأسوشيتد بريس كلاماً منسوباً لسياسي لبناني على علاقة وثيقة بالقيادة السورية بأن الرئيس بشار الأسد رفض عرضاً للقاء بين مسؤولين أتراك وسوريين، هناك ربما من تجاهل هذا الكلام لأنه بالنهاية يضعهُ أمام مأزقٍ في خياراتهِ التحليلية التي تستند إلى العاطفة أكثر من الواقع في نقاطٍ ثلاث:
أولاً: هذا الكلام يُعيد تأكيد فكرةِ استقلالية القرار السوري، لا يستطيع عدو ولا صديق لي الذراع السورية عندما يتعرض الموضوع بالخيارات، هذا الأمر يشبه تماماً عودة العلاقة مع «حركة حماس»، هناك من أرادَ عودة العلاقة كما يراها هو، لكن الموقف الرسمي السوري كان واضحاً لجهة عودة هذهِ العلاقة بالحدِّ الأدنى للحفاظ على ترابط الخيار المقاوم لا أكثر، هي عودة لم الشمل لفكر المقاومة كما يراه بلد المقاومة الأول والوحيد، هل فهمنا الآن لماذا كان استقبال الرئيس بشار الأسد لوفد الحركة كجزء من اللقاء بتنظيمات فلسطينية مُقاومة، وليسَ لقاء منفرداً بالحركةِ نفسها مع تحديد الأسماء المسموح لها بدخول دمشق؟!
ثانياً: تريد القيادة السورية فيما يبدو إخراج ملف عودة العلاقات من التجاذباتِ الانتخابية التركية، الفكرة هنا تبدو بسيطة انطلاقاً من الهوة الشاسعة التي اعتدنا عليها بين الاستثمار بالملفات لكسب الأصوات والتطبيق بعد النجاح، تحديداً إن تجارب مدى الالتزام بما يتعهد به رأس النظام التركي لا تبدو مُبشرة بل لعلهُ أحد أشهر الأنظمة تلوناً وتبديلاً للمواقف ذاق لوعتها حتى من يثقون بهِ فكيف الذين يعرفون حقيقته؟ أما الفكرة المستَهلكة التي اعتدنا سماعها وتتحدث عن الخوف من بديلٍ لأردوغان يكون حليفاً للغرب فهي حكماً تدعونا لإعادة النظر بالقدراتِ العقلية لمطلقيها، هل حقاً إن أردوغان لم ينفِّذ الإرادة الغربية والناتوية حصراً في كل خياراتهِ السياسية؟ نخشى أن تقوم بعض التحليلات بضمهِ إلى ما يسمى محور المقاومة! هذه المتاجرة الانتخابية التي تقدّم أردوغان كحامٍ لتركيا من التنظيمات الإرهابية كحزب العمال الكردستاني عليها أن تقف عند حدود تركيا فقط، أما كل ما يتعلق بداخلِ الحدود السورية فهي مسؤولية سورية بحتة، قد يتم طلب المساعدة التركية لا مانع من ذلك لكن ضمن الأطر الرسمية التي تحترم سيادة الدول وليس عبرَ البلطجة والمتاجرة بدماء الأبرياء في تركيا وسورية!
ثالثاً: لا يبدو النظر لمستقبل العلاقات السورية التركية واقعياً من دون الأخذ بالحسبان تبدل المزاج الرسمي العربي تجاهَ ما يجري في سورية، هذا التبدل لم يكن هِبة أو منحة من الأنظمة العربية بل هو نتيجة منطقية للصمود السوري الذي لولاه لرأينا التركي يكمِل سياسة قضم الدول العربية برداءٍ إسلامي بلداً تلوَ الآخر، هذا التبدل يعني عودة العمق العربي الذي كانت سورية معزولة عنه وهو يكسر فكرة أحادية الخيارات باتجاه الشمال، أضف إلى ذلك أن استقلالية القرار العربي تبدو بداية مبشرة لما هو قادم لمستقبلِ المنطقة، ماذا لو عاد مثلث مصرـ سورية ـ السعودية؟ هذه العودة لم تعُد حلماً، هي فكرة على العقلاء في هذهِ البلدان القتال لأجل جعلها واقعاً يُعيد لنا أساسيات الأمن القومي العربي المفقود منذ غزو نظام صدام حسين لدولةِ الكويت واستغلال اللحظات المفصلية التي يعيشها العالم على وقعِ الحرب الأوكرانية والأزمة الاقتصادية التي تعاني منها أوروبا، هناك من يرى هذا الكلام نوماً في العسل والجواب بسيط:
ألم تتهموا يوماً من يتحدث عن عودة أردوغان صاغراً إلى دمشق بالوهم؟ مازلنا نتحدث عن النهضة الحتمية لهذه الأمة وما زلنا نصر أن هذه النهضة آتية بطريقةٍ عصرية أقرب للواقع فماذا ينتظرنا؟
لم نعتد كسوريين على أحد، هذا يعني أننا أول من يمد يده لأي مبادراتٍ تنهي الحروب واللا استقرار على الحدود الشمالية، لكن في الوقت ذاته هناك فرق بين الوهم والواقع، اللقاءات الرسمية لا تحل أي شيء ما دامت النيات على الأرض لم تتبدل، لا تبدو الدولة السورية مستعجلة في خياراتها لكن في الوقت ذاته لا أحد يستطيع المزايدة على الدولة السورية وسعيها لإيقاف إراقة الدماء وعودة اللاجئين إلى بلادهم وهي لم توفر جهداً لذلك، لكن لايمكن في السياق ذاته جعل هذا الموضوع مطيّة لفرضِ أمرٍ واقع في الشمال تبدو معه الدولة السورية شريكة بسلبياته وقد تستمر ارتداداته لعشرات السنين، من يرد عودة العلاقات السورية التركية فعليه أولاً الكف عن الاستثمار بهذا الموضوع إعلامياً ومن ثم النظر بالحد الأدنى من الشروط التي يراها الشعب السوري قبل قيادته واجبة، عندها تصبح جميع الملفات تحصيلَ حاصل ليبدو معها الهدوء الرسمي السوري مستفزاً.. فقط لمن لا يُجيد حتى الآن قراءةَ أفكاره!