درويش من حبق … بديع جحجاح لـ«الوطن»: الدروب الصوفية تقود إلى ارتقاء الروح وهي ملاذ الوعي
| مايا سلامي
يأخذك حديثه إلى عالمه الساحر الذي صنع فيه فنه وإبداعه الخاص ليقدم أعمالاً تهيم فيها أسمى معاني الجمال والحب والعطاء، فكان درويش من حبق الذي خبأ في دراويشه ورموزه قصصاً وأسراراً تروي حكايته ورحلته مع الحياة لتبحر فيك إلى عوالم رائعة ترتقي بها روح كل إنسان.
إنه الفنان التشكيلي بديع جحجاح الذي ابتكر بفنه رؤية روحانية جديدة اقتبسها عن النصوص المقدسة فاستطاع أن يحقق لنفسه هوية مميزة سطع من خلالها اسمه في سماء الفن العربي والعالمي.
وفي حوار خاص له مع «الوطن» أخبرنا بالآتي:
• في البداية حدثنا عن الطفل بديع جحجاح وخصوصية تلك المرحلة التي شكلت الملامح الأولى لإبداعك الفني.
في مرحلة الطفولة كان الرسم بالنسبة لي من أهم الأدوات التي أعمل فيها للتعبير عن مكنوناتي الداخلية، وكان والدي من الداعمين للموهبة حيث قاما بتأمين كل ما أحتاجه من ألوان ودفاتر رسم، وأذكر عندما كنت بالصف الثاني الابتدائي كرمني المدير بعد قيامي برسم شجرة نالت إعجاب الجميع فأقاموا لي معرضاً في المدرسة حينها مما ساعد على نمو الموهبة، وازدادت قدرتي على التعامل مع الرسم بكل أشكاله وتقنياته واستمرت رحلتي مع نمو الموهبة حتى دخولي إلى كلية الفنون الجميلة.
• كيف اتجهت إلى عالم الروحانيات وأصبح لك بصمة وهوية خاصة بعالم الفن؟
الدروب الصوفية تقود إلى ارتقاء الروح حيث كانت ملاذي لجهة الوعي وكجواب دفاعي عن روح بديع التي أعطبتها الحرب بسبب جملة من التغيرات والمطبات الشخصية التي مررت فيها والتي ولدت بداخلي رؤية جديدة للحياة ورحلة الإنسان فيها شعرت أنه من الضروري إعادة بناء العلاقة مع الله لجهة العرفان والحب وإقامة جسور وعي مع الآخرين حيث إن طبيعة العلاقة الإنسانية مع الله عمودية وتمتد أفقياً مع البشر.
• ما الذي تعنيه لك شخصية الدرويش وإلى أي حد يعبر عنك حتى اخترته ليكون اللوغو الخاص بك؟
الدرويش في رحلة بديع انعكاس لروح صاحبه، وهو حالة انعتاق وتحرر من بنية التعلق حيث الفكر المغلق والارتباط بالمادة والمظاهر والسلطة والمال والشهوات ويتجلى بمنحوتات مجسمات الدراويش البرونزية التي تنقل رسائل وعي، فمرة يكون «الدرويش يوسف الصديق» وهو يحمل سنبلته كإشارة ترشدنا إلى كيفية التصرف السليم جهة التسامح والحب والغفران، وكذلك «من قلبي سلام» يمثل التحية التي نستخدمها جميعاً إشارة للسلام والأمان إضافة إلى «درويش ملاك» كنهاية لرحلة الدرويش الذي يأخذ بيده اليمنى ويعطي بيده اليسرى، فمن خلال رحلته بالعطاء والإحسان ومن دون أن يشعر تتحول يداه إلى أجنحة تدل على القرب والاتصال بالله، وفي كل هذا نحن نقوي المفردات التي تحقق أعلى مستوى من الاتصال بين الناس من أجل مجتمعات صحية. كما أن طواف الدراويش وحركتهم الدائرية تذكر بحركة الكواكب والمجرات إشارة إلى سعي الإنسان اليومي للتعرف إلى ذاته وتمكينه من فهم الآخرين، وهي دعوة لتحرير النفس من سجنها ولا يكون هذا إلا بتراكم جميع صنوف المعرفة المنفتحة على الثقافات، فكل بنية ارتقاء من أينما أتت تعتبر مقدسة بالنسبة للدرويش الذي يعبر عن المعرفة التي تولد السعادة وتروم الجمال.
• درويش بديع جحجاح سواء باللوحة أو المنحوتة أو الحلي صار منتشراً عربياً وعالمياً.. هل السبب برأيك الذكاء التسويقي أم الصدق الذي تحمله القطع الفنية؟
الصدق حتماً وطالما يصدق الفنان عمله لجهة الشعور والمعنى يستطيع العمل البصري الفني مخاطبة العالم كله.
• ألف نون» اسم الصالة الخاصة بك، ما البعد الروحي لهذين الحرفين من منظورك الشخصي؟
جاءت تسمية «ألف نون» للغاليري من أول حرفين بإنسان وآخر حرفين منه والسين هي سورية، وإذا تعمقت أكثر بالكلمة ستجد أن «إن» الأولى موجودة بالإنجيل والـ«إن» الأخيرة موجودة بالقرآن والألف والنون إذا قرئت من دون أن تجزّأ تكون كلمة «الفنون».
• حدثنا عن سر الحبق الذي بات جزءاً لا يتجزأ من أبجدية بديع جحجاح وفنه.
أول حرفين من حبق «حب» ودراويش تتحدث عن وعي الحياة من خلال الحب. وإذا جمعت الحرف الأول والأخير من «حبق» ستكون كلمة «حق» المبتغى بالحياة بعد اكتشافك للحب وهو العدل، وعكس كلمة حبق «قبح» والدرويش يحارب القبح من خلال وعي كلمتي الحب والحق هذه هي باختصار دربه إلى الله.
• أطلقت مشروعك الخاص «دوران» الذي تميزت واشتهرت به فكيف استلهمت فكرته؟
مشروع دوران ولد عام 2010 في فندق قصر الشهبندر حيث قدمت الدراويش كحملة تسويقية لهذا الفندق، وفي ذلك الوقت لم يكن عندي حالة ارتباط بالدرويش من جهة المعنى والعمق والجوهر وكان مجرد مشروع تسويقي يرتبط بالنظام المعماري المملوكي للفندق، لكن عندما بدأت الحرب انتبهت إلى «لوغو» كنت قد صممته مسبقاً فكان هذا الرمز بمنزلة البذرة التي ولد منها «دوران» في ذلك الوقت وحمل معه معاني « أفلا» عام 2012-2013 كمشروع تفكير لاستنهاض العقل تم عرضه في دار الأوبرا ضمن مجموعة عروض مزجت ما بين سينما ومسرح ولوحات فنية وكتاب دوران، وقد ولدت من بعده صالة «ألف نون» حيث أقمنا معارض فردية وجماعية تحولت لاحقاً إلى تظاهرة ثقافية متفردة بزمن أغلقت فيه معظم صالات العرض، وكانت ومازالت برأي كثيرين ترياقاً للروح عبر ما تقدمه من الفنون المختلفة التي جمعت الناس على الجمال ونشر طاقة المحبة.
• أطلقت مؤخراً كتاب «درويش من حبق» أخبرنا أكثر عن محتواه.
هذا الكتاب جامع لرحلة عشر سنوات من الوعي المعرفي والبصري ومشاركة للجميع بالحوامل التي جعلت من الدراويش منظومة وعي جمالية وأخلاقية، فهو ليس كتاباً أدبياً أو رواية إنما هو عبارة عن شذرات لحوامل فكرية وتجليات للدراويش وللأشجار والرموز، وهو حالة عرفان للبيت الأول الذي تربيت فيه وللوطن والتاريخ وللثقافة التي أحملها بداخلي ورسالة للعبور إلى قلوب الآخرين.
كما يحتوي الكتاب على معظم اللوحات التي تم اقتناؤها حول العالم كحالة توثيقية شاهدة على الحال الثقافي في زمن الحرب، وقد شمل على آراء مجموعة من النقاد والباحثين التشكيليين الذين كانوا على مقربة من التجربة وصدر الكتاب عن دار دلمون الجديدة وقدم في معرض الكتاب الأخير.
• ماذا بعد الكتاب؟
التحولات القادمة ستفتح الأبواب على رحلة أخرى للدراويش ربانها «الدرويش نوح» ومن سيحمل معه على ظهر سفينته، إنه مجرد سؤال لتفكيك الصمت والانتقال به إلى ضجيج القلق الإبداعي الذي يؤرق كل فنان مبدع مسؤول.
• بالحديث عن مشروع مسابقة «ألوان وأفكار» الذي تقيمه بشكل دوري، كم مهم اليوم دعم وتشجيع الفئات العمرية المختلفة وتنمية مواهبهم الفنية؟
علاقتي مع الدراويش علمتني من خلال طواف درويش «يأخذ ويعطي» طرح الأسئلة.. وكان السؤال: ما نفع الفن في زمن الحرب إن لم يكن له أثر على المجتمع، ولذلك أوجدت مشروع «ألوان وأفكار» لخدمة الجيل الجديد من خلال دعم الحركة الفنية لدى المدارس بمختلف المراحل إيماناً مني بأنه عبر الجمال والأخلاق تتوحد وتندمج كل الفروقات بين البشر وترتقي بهم لمصاف الإنسان.
وتم الاتفاق بين ألف نون ووزارة التربية التي تدعمنا لوجستياً في عملية نشر مسابقة « ألوان وأفكار» وأدواتها ونحن بدأناها منذ عام 2017 حتى الآن بمحاور مختلفة يتفاعل معها التلاميذ من صف الأول حتى البكالوريا يرسلون لنا أعمالهم ونحن نختار ما يزيد على 300 فائز بعد عرضها على لجنة تحكيم مختصة حيث يحصل الطالب على شهادة تقدير وكتاب يحتوي على جميع الرسومات الفائزة وعلى قيمة مالية تمنح له من «ألف نون» التي تمول المسابقة من خلال اقتناء الدراويش واللوحات والرموز.
وهنا نشير إلى أنه بحسب وعي الدراويش يجب على صالات العرض أن تتجاوز فكرة العرض والعلاقة مع الفنان إلى تبني مشاريع ثقافية تدعم الفن وتسهم في نشره وتعمل على تطوير المجتمع وترتقي بأبنائه.