«استكردت» ميليشيات «قوات سورية الديمقراطية- قسد» في تسليم عفرين بريف حلب للجيش العربي السوري عام 2018، فأثمر ذاك «الاستكراد»، والتعويل على رفض أميركي، دخول قوات الاحتلال التركي والسيطرة على عفرين وطرد أهلها وسرقة ممتلكاتهم، وتدمير ونهب تراث وتاريخ المنطقة من التركي ومرتزقته، ومنذ ذاك الحين وميليشيات «قسد» تبكي عفرين، وتمسح دموع خيبتها، بمناديل الحسرة والندم، وترمي تهم احتلالها يميناً ويساراً حتى يومنا هذا، مع تكرارها في كل لحظة أخطاء عفرين، لتأتي الأيام وتتكرر المواقف والمشاهد الآن على مشارف تل رفعت ومنبج وعين العرب، مع إنهاء النظام التركي تجهيزاته لشن عدوان على تلك المناطق يسفر في المحصلة إلى مستقبل يشبه مستقبل عفرين، ولـ«تستكرد» ميليشيات «قسد» مجدداً إزاء تسليم المناطق التي تسيطر عليها في شمال شرق سورية لقوات الجيش العربي السوري، وتعاود الرهان على موقف أميركي يمنع رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان من شن عدوانه، متجاهلة أن ذات المدخلات في أي معادلة مهما تكررت لن تفضي إلا لذات المخرجات والنتائج.
من الواضح أن أردوغان يعمل وفق مقولة تنسب إلى رئيس وزراء المملكة المتحدة البريطانية ونستون تشرشل مفادها «لا تدع أزمة جيدة تذهب سدى»، فهو يستثمر بشكل جيد جداً المتغيرات الدولية، والصراع القائم بين روسيا وأوروبا وأميركا في أوكرانيا، كما أنه وجد ضالته في التفجير الذي ضرب في شارع «الاستقلال» في اسطنبول في 13 الشهر الحالي ليعمل على تنفيذ تلك المقولة بحرفيتها، فذاك التفجير هي الفرصة الجيدة للانقضاض على خصومه «الأكراد» في ميليشيات «قسد» والقضاء عليهم، وصولاً إلى تنفيذ مخططه بإقامة منطقة آمنة بعمق 30 كم شمال سورية، من دون أي اعتراض فعلي من القوى الدولية الفاعلة في سورية، أميركا وروسيا، لجهة معرفته بكيفية استمالة كل طرف نظراً للدور الذي يلعبه في أوكرانيا.
وإذا كان أردوغان قد اتخذ قرار العدوان البري، وستكون عبر مراحل، وفق جميع التقارير والتأكيدات التركية، إلا أنه بانتظار حسم خياراته، وإلى جانب أي الأفرقاء يصطف، روسيا التي دعت أنقرة على منع استخدام «القوة العسكرية المفرطة»، وتقديمها خطة، وفق تقارير إعلامية، تقضي بخروج «قسد» من المناطق الحدودية مع تركيا، مقابل السماح لقوات من الفيلق الخامس بالانتشار فيها، وهو ما لاقى رفضا من الميليشيات، أم إلى جانب أميركا حليف «قسد»، التي أبدت تفهماً للمخاوف التركيّة، ليؤكد منسق الاتصالات الاستراتيجية في البيت الأبيض جون كيربي، أن الولايات المتحدة تعترف بحق تركيا في الدفاع عن نفسها، قائلاً: «تركيا ما تزال تعاني من الهجمات الإرهابية، سواء بالقرب من هذه الحدود (مع سورية) أو في مناطق أخرى داخل البلاد، ولهم الحق في حماية أنفسهم ومواطنيهم من هذه الهجمات»، ليكون ذلك بمثابة ضوء أخضر أميركي لأردوغان بالسماح له باجتياح عسكري.
أردوغان الذي يسترشد حالياً على ما يبدو بمقولة تشرشل، عمل على تطوير تلك المقولة، وحول التفجير في شارع «الاستقلال» من فرصة، إلى مطية، وسلاح في معركته الانتخابية داخلياً، حيث عمل على تقسيم العدوان المرتقب على مناطق شمال شرق سورية إلى مراحل تبدأ وفق مصادر دبلوماسية تركية مطلعة، بمنطقة تل رفعت، على أن تشمل لاحقاً عين العرب ومنبج خلال أشهر، ما يتيح لأردوغان استغلال مسألة العمليات العسكرية، وليبقى تأثيرها مستمراً داخلياً على الناخبين قبيل حزيران 2023، كما استغل التفجير ليشن هجوماً على واشنطن، ويدفعها للتخلي عن «قسد» قائلاً: «إن الذين يتشدقون علينا بخطب الديمقراطية والحقوق والحريات يتعين عليهم أولاً الالتفات إلى الإرهابيين وداعميهم في بلادهم، لسنا مضطرين لتحمل نفاق من يدعمون التنظيم الإرهابي «بي كي كي» وامتداداته بألاعيب تغيير الأسماء».
هل تتخلى واشنطن عن «قسد»، وهل تغض روسيا الطرف عن العملية العسكرية التركي؟ في منطق المصالح كل شيء ممكن، فالأميركي ليس في وارد التخلي عن أنقرة، الشريك في «الناتو»، والحاضن لأكبر قاعدة عسكرية أميركية في المنطقة، وبيضة القبان بشكل أو آخر في الميزان الأوكراني، والواقع أثبت في الماضي تخلي واشنطن عن «قسد» إذا ما كانت المفاضلة مع التركي، وبالنسبة إلى روسيا، فإنها حريصة على إبقاء أنقرة في خانة الوسط في ملف أوكرانيا، إن لم تقدر على كسبها إلى جانبها في مواجهة واشنطن، وترى في التهديد التركي بشن عدوان بري على مناطق ميليشيات «قسد» فرصة للضغط على الأخير للجنوح باتجاه الحوار مع دمشق، وسحب البساط من تحت أقدام الأميركي في سورية، وخاصة أن بقاء قوات الاحتلال الأميركي بلا غطاء يوفره له «قسد» سيعرضه للخطر، وإلى وابل من هجمات المقاومة الشعبية في شرق سورية، فهل تدرك «قسد» أي واقع هي في خضمه، وأن الحوار والتقرب من دمشق هو الحل الأنسب لتجنبها ويلات ونتائج العدوان التركي، وهل تعمل على عدم تكرار سيناريو عفرين؟
نسأل وكلنا أمل أن تعي حقيقة ما يجري وتستفيد من دروس الماضي قبل فوات الأوان وتتحول منبج وتل رفعت وعين العرب إلى عفرين ثانية!