شكلت الظروف الدولية والنظام العالمي الذي فرضته قوى الاستعمار العالمي في القرن الماضي دوراً رئيساً لم يكن حاسماً في تشكيل الكيان الإسرائيلي ومدته بأسباب التأسيس ليصبح كياناً عام 1948، بعد أن ولد من رحم حربين عالميتين سيطرت فيهما القوى البريطانية والفرنسية والأميركية على السياسة الدولية وإدارتها بما يخدم مصالحها ضد كل شعوب العالم الثالث. وحين سادت ظروف الحرب الباردة في الخمسينات والستينات، اضطر هذا الكيان إلى شن حربين إقليميتين في عام 1956 بمشاركة بريطانيا وفرنسا ضد مصر عبد الناصر، ثم بمشاركة أميركا في حرب عام 1967 ضد مصر وسورية، واحتل فيها بقية الأراضي الفلسطينية والجولان وسيناء فاتسعت مجابهته على ساحات متعددة من سورية ومصر والمقاومة الفلسطينية ثم من إيران بعد الثورة الإسلامية عام 1979 عبر حدوده وفي داخله، وبقي خلال أكثر من خمسين سنة يتعرض لمقاومة لم تتوقف وعلى عدة جهات حتى بعد خروج جبهة مصر عام 1979 من الصراع، ولم تتمكن كل الظروف الدولية التي كانت في تلك الفترة تدعم استمرار احتلاله وأهدافه من ضمان أمنه واستقرار أوضاعه وفرض شروطه، فقد تعرض لهزيمة في حرب تشرين عام 1973، ثم لهزيمة على الأراضي اللبنانية عام 2000، وبعد ذلك في عام 2006 من جبهة جنوب لبنان نفسها ثم إلى هزيمة في قطاع غزة عام 2005 تحرر بموجبها قطاع غزة.
في الظروف الدولية السائدة الآن ظهر للجميع أنه عاجز عن شن حروب شاملة «وقائية» استباقية أمام قوى محور المقاومة الذي امتد من دمشق والمقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله، والفلسطينية من داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة وغزة المحررة، ووصل إلى قوى المقاومة في العراق وحتى طهران التي أصبحت قوة إقليمية كبرى في المنطقة، وبسبب وجود هذا المحور وتزايد قدرات قوة ردعه في المنطقة، اقتصرت أشكال عدوان جيش الاحتلال على حروب محدودة ضد قطاع غزة وغارات محدودة التأثير فوق الأراضي السورية، وانشغل جيشه خلال السنوات الماضية بالعمليات العسكرية في مناطق الضفة الغربية، وفي كل هذه المعارك والحروب لم يتمكن من منع الانتفاضات المسلحة وغير المسلحة ضده، ولا من إيقاف عجلة تطوير أسلحة وصواريخ قوى محور المقاومة على جبهات حدوده الخارجية. وفي ظل هذا الوضع المحلي والإقليمي الذي يواجهه الكيان الإسرائيلي في داخله ومن حوله لم يعد الوضع الدولي الذي اعتاد على الاستناد إليه، يعمل في هذه الظروف الراهنة كما يريد، فالحرب في أوكرانيا واتساع رقعة المجابهة الأميركية من الصين إلى روسيا في أوروبا وإلى المنطقة بدأت تفرض تغيرات متسارعة على الوضع الدولي، يتابعها الكيان الإسرائيلي بقلق متزايد وخوف من نتائجها التي يتوقع المحللون في إسرائيل وأميركا ألا تكون في مصلحة هيمنة الغرب والمصلحة الإسرائيلية لأول مرة منذ انتهاء الحرب الباردة عام 1991 والنظام الأميركي العالمي الذي فرضته واشنطن. وكانت مجلة «فورين بوليس» الإلكترونية قد ذكرت في 20 تشرين أول الماضي أن وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس أطلق تصريحاً علنياً يقول فيه إنه لا يوافق على إرسال أسلحة إسرائيلية إلى أوكرانيا، فانتقده ألون ليئيل مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية سابقاً وعارض موقفه قائلاً: إن إسرائيل «تخون حلفاءها في الغرب حين لا تقف معهم في دعم أوكرانيا بالسلاح»، بموجب مقابلة أجراها مع المجلة. ويلاحظ محللون في إسرائيل أن القيادة الإسرائيلية منقسمة حول هذا الموضوع رغم أن واشنطن لم تمارس عليها ضغوطاً لاتخاذ موقف مغاير لما تتخذه حتى الآن، فبعد مرور عشرة أشهر على الحرب الأميركية الأوروبية على روسيا في الموضوع الأوكراني لا تزال القيادة الإسرائيلية تتعامل بحذر وتمتنع عن الإعلان عن موقف مماثل لما تتخذه معظم الدول الأوروبية، وهذا يعني أن الكيان الإسرائيلي لا ينظر بارتياح إلى هذه الحرب من ناحية، ولا يثق من ناحية أخرى بأن نتائجها ستكون في مصلحة الغرب الحليف التاريخي له، وهي المرة الأولى التي يجد نفسه فيها مرتبكاً خائفاً من تطورات هذه الحرب على وضعه الإقليمي خاصة، لأن محور المقاومة وفي مقدمه القوة الإيرانية الإقليمية المتعاظمة يقف إلى جانب روسيا والصين ضد الغرب وأميركيا في الموضوع الأوكراني ناهيك عن أن إسرائيل ترى أيضاً أن النظام العالمي الذي أنشأها، بدأت أعمدته الأميركية والبريطانية تتصدع لأول مرة، وتطرأ الانقسامات داخل دائرتها الأوروبية بسبب عدم الثقة بالدور والقوة الأميركية في مواجهة روسيا والصين وتناقض مصالح بعض الدول الأوروبية مع المصالح الجشعة للولايات المتحدة.