كتبت الكثير من المقالات في صحيفة «الوطن» عن «قسد» وخياراتها، وعن «إسرائيل الثانية» التي يريدون أن يقيموها خطوة خطوة تحت عناوين المظلومية التاريخية والحقوق الثقافية والحريات والديمقراطية، ليتبين لنا لاحقاً أنه لا علاقة لكل ذلك بما يحدث على الأرض، وأن بعض القيادات في «قسد» اعتقدت واهمة أن الولايات المتحدة الأميركية ستشكل حماية أبدية لها، وأنها تحت المظلة الأميركية سوف تقتطع مساحة من الأراضي السورية لتُقيم عليها كانتوناً مسخاً لا عمل له سوى أن يكون كلب حراسة عند الأميركي، وأن يتلقى أوامره من القاعدة الأميركية وينفذها، وفحوى هذه الأوامر تقول: تفاهموا مع الشيطان لكن ليس مع أبناء بلدكم وشعبكم، وفي كل مرة كانت وفود «قسد» تأتي إلى دمشق للحوار وإيجاد الحلول، وكانت النتيجة حواراً بلا جدوى، ونتائج لا معنى لها، وكلام الليل يمحوه النهار! والسؤال هنا: لماذا؟
دعوني كعادتي أكون صريحاً جداً مع القُراء الكرام من خلال تبيان حقائق لابد منها:
1- نعيد ونكرر للمرة الألف إن محاولة انتحال «قسد» صفة تمثيل شعبي ليست دقيقة، فـ«قسد» بجسمها الأمني والعسكري تسيطر عليه عناصر حزب العمال الكردستاني التي تتخذ من جبال قنديل في العراق مقرا لها، وهؤلاء تحولوا مع مرور الزمن إلى مشروع للإيجار «عند الطلب» لمصلحة قوى إقليمية ودولية ضد أوطانهم وشعوبهم، ويستغلون عاطفة ومشاعر بسطاء السوريين الكرد لدفعهم باتجاه أن يكونوا مجرد وقود لمشاريع الآخرين، وأقصد هنا الولايات المتحدة الأميركية، وبعض الدول الأوروبية.
2- لا تمثل قيادات «قسد» التوجهات الأساسية للسوريين الكرد، إذ إن هناك عشرات الأحزاب تحت مسميات مختلفة تنتحل الصفة نفسها، وتعمل على أهداف وأجندات مختلفة، وهناك صراع بين النموذج البارزاني العشائري التقليدي، والنموذج اليساري الذي تحاول بعض القوى تقديمه للناس.
3- السوريون الكرد جزء أساسي من النسيج الاجتماعي لسورية، وبالرغم من أن لهم هوية إثنية ليست عربية، ولكنهم عروبيو الثقافة واللغة والانتماء لهذا الوطن وهذه الأرض، ولكي لا يقولنا البعض ما لم نقله، المقصود هنا أن السوري الكردي ليس عربياً، نعم، لكنه عروبي، أي ينتمي للوعاء الثقافي الحضاري لهذه المنطقة وساهم بها وأغناها، ولذلك فإن أولئك الذين يريدون إحداث الفصل الميكانيكي، بين الكرد والعرب هم مراهقون ولم يقرؤوا تاريخ سورية والمنطقة.
4- إن الحديث في مراكز الدراسات الغربية، ووسائل الإعلام عن مناطق كردية وأراض كردية، يهدف فيما يهدف للتضليل، وبث الفتنة بين العرب والكرد، والدخول في نقاشات سفسطائية لا توصل لأي نتيجة، والهدف هو إدخالنا في دائرة مفرغة لا جدوى منها، ونقاش غير منتج، للدفع أكثر نحو استخدام طرف ضد طرف آخر لتحقيق مصالح أميركية أو غربية أو إسرائيلية صهيونية، والعراق ماثل أمامنا، فالصراع كان في البداية ضد البعث وصدام حسين، ثم انتقل ليصبح شيعياً سنياً، والكرد بيضة القبان، وأما الآن فالصراع شيعي- شيعي، وسني سني، وبارزاني
طالباني وهكذا دواليك، أي ما تسميه الدوائر الغربية: التآكل الذاتي!
الأراضي التي يتحدثون عنها هي أراضٍ سورية، وجزء من الجمهورية العربية السورية، بغض النظر عمن يقطنها، والثروات هي ثروات وطنية لكل السوريين، وليست لجزء منهم يتحكم بها وفقاً لمزاج قياداته، والأوامر الأميركية التي تستخدم ضد أبناء شعبهم وبلدهم.
5- إن «قسد» إذا أردنا توصيفها أو تشبيهها، فهي هيكل سوري كردي موالٍ للولايات المتحدة، ومحرك عشائري عربي، يعمل بالأجرة، أي إنه عربة قابلة للتفكك، والانهيار بمجرد رفع الولايات المتحدة الأميركية يدها عنها، إذ لا يوجد عقيدة مشتركة ولا أيديولوجيا تجمع هؤلاء الناس، والدعم الخارجي لا يمكن أن يعطي الديمومة والاستمرار، وتجربة أفغانستان ماثلة أمامنا إذ لم يأمن آخر رئيس لأفغانستان أشرف غني لثلاثمئة ألف جندي دربتهم الولايات المتحدة، فهرب مع حقيبة دولاراته، وأما العملاء فقد تعلقوا بدواليب الطائرات المغادرة التي كانت تنقل على عجل من افترضوهم أنهم حُماةٌ لهم، وإذ بهم عراةٌ تُركوا لمصيرهم، فالعملاء لا حماية لهم، بل يُستخدمون، ويُرمون للمزابل.
6- أما بالنسبة للغة والثقافة، فهو أمر مرحب به، لا بل نعتز به، فسورية بلد تشكل عبر التاريخ من تنوع ثقافي حضاري إثني، وهذا التنوع لم يخلق لدى السوريين عصبية إثنية أو دينية أو مذهبية، لأن الذهنية السورية منفتحة على اللغات والثقافات والحضارات بحكم موقعها الجغرافي، وتاريخها الطويل، ولذلك فإن غالبية السوريين يرفضون أي شكل من أشكال التعصب والانغلاق، والتقوقع، لأنه لا ينسجم مع الموقع والتاريخ.
7- فيما يخص ما ابتكروه باسم «الإدارة الذاتية» فإنه نموذج فاشل تنموياً ونظرياً وعملياً، ولا يعدو كونه تكراراً لتجربة شمال العراق تحت يافطة سورية، واقتطاع جزء من الأراضي السورية لتنفيذ مشروع يشمل إيران والعراق وتركيا وسورية، وهو مرسوم على خرائط الشرق الأوسط الكبير، أو الجديد، ولذلك فإن الحديث المستمر عن وحدة سورية من قبل قيادات «قسد» لا يعدو كونه ذراً للرماد في العيون، إذ كيف يمكن أن تكون مع وحدة سورية وتغلق المدارس وتغير المناهج، وأسماء المناطق والقرى، وتسرق الثروات وتحرس المحتل الأميركي، ثم تدعي البطولات وتطلق الخُطب العصماء، ثم تترك السوريين الكرد في عفرين لمصيرهم مشردين، كما ستتركهم الآن في المناطق الأخرى.
مناسبة هذا الحديث، وإعادة سرد الحقائق، وكشف التضليل الذي يمارس منذ سنوات باسم السوريين الكرد، هو ما يحدث الآن من لف ودوران من قبل قيادات «قسد» تجاه احتمالات غزو عسكري تركي جديد لمناطق سورية جديدة، ورفض هذه القيادات حتى الآن دخول الجيش العربي السوري إلى المناطق الحدودية لقطع الطريق على هذا الغزو الجديد، بحجج واهية وكاذبة ومنافقة، ووهم حماية الأميركي له، ومحاولات كسب الزمن دون أي طائل أو فائدة.
تضليل «قسد»، والابتعاد عن الحقائق والواقع يذكرني بتضليل الجماعات صاحبة الذقون التي انتحلت اسم الإسلام، وضحكت على بسطاء السوريين وشردتهم، ثم سحبت أموالها لتستثمرها في تركيا، ومناطق أخرى في العالم، وأما «القسديون» فإنهم سيمشون بالخطة نفسها التي مشى عليها من سبقهم من المتأسلمين الجدد، ولن يكون مصيرهم بأفضل منهم، والعيش على أوهام الأميركي كمن يلحق السراب تماماً.