قبل أربعين عاماً وفي مثل هذه الأيام الباردة تعرفت على عبد اللطيف عبد الحميد، عقب تخرجه في معهد «الفغيك» السينمائي في موسكو، أول ما لفت انتباهي بلطيف هو أنه لطيف حقاً فضحكته خجولة قد تنتهي بدمعة، ودمعته بيضاء قد تتحول إلى ضحكة طيبة في أي لحظة.
عندما رأيت الأفلام التي أخرجها في أثناء الدراسة في موسكو أحسست أنني أمام مبدع ذي خصوصية واضحة، وقد تأكد لي هذا عندما رأيت فيلمه القصير «أيدينا»، ومنذ ذلك اليوم لم يتوقف لطيف لحظة عن إدهاشي.
يرى الرومان القدماء أن «الإنسان يساوي شغفه» وقد كان واضحاً منذ البداية أن شغف لطيف هو الفن السينمائي وحب البشر.
قبل سنوات قرأت مقولة لسينمائي أميركي لم أعد أذكر اسمه مفادها «من الصعب أن تكتب دراما جيدة، لكن من الأصعب أن تكتب كوميديا جيدة، أما أصعب الأشياء على الإطلاق فهو أن تكتب دراما تتخللها كوميديا، فتلك هي الحياة». وهذه نزعة مشتركة بيني وبين أخي لطيف.
ثمة قول شائع ينسب للكاتب الفرنسي جورج بوفون مفاده «الأسلوب هو الإنسان» والحقيقة أن لطيف قدم خمسة عشر عالماً مختلفاً في أفلامه الطويلة، إلا أنه حافظ دائماً على نقاء أسلوبه الإبداعي واستمراريته، بحيث يمكن القول إن كل واحد من أفلامه يشبهه إلى هذا الحد أو ذاك.
أدرك لطيف منذ اللحظة الأولى خصوصية السينما كفن وصناعة وتجارة، فأفلامه تكاد تكون هي الوحيدة التي تسترد تكاليفها وتحقق ربحاً أو بعض ربح، وهذا ما حوّل اسم عبد اللطيف عبد الحميد إلى «علامة فارقة تسكن وجدان كل من يحب هذا الفن الساحر» على حد قول مدير المؤسسة العامة للسينما مراد شاهين.
من المعروف عن لطيف أنه يكتب سيناريوهات أفلامه بنفسه، لكنه بعد الوعكة الصحية التي ألمت به، عقب رحيل رفيقة عمره لاريسا، دخل في شراكة إبداعية مع الشاعر والروائي عادل محمود، إذ كتبا معاً فيلم «الطريق» الذي توافق أول عرض جماهيري له في سورية يوم الأربعاء الماضي مع أيام الثقافة السورية ومرور أربعة وستين عاماً على تأسيس وزارة الثقافة.
كان فيلم «الطريق» قد فاز في أول مشاركة له في المهرجانات بثلاث جوائز خلال أيام قرطاج السينمائية 2022، وهي جائزة الجمهور، وجائزة أفضل ممثل لموفق الأحمد، وجائزة أفضل سيناريو.
في حفل الافتتاح أهدى لطيف فيلم «الطريق» لرفيق دربه وشقيق روحه عادل محمود الذي لم يعرف بالجائزة، لأنه كان في غيبوبة لم يصح منها. وما إن بدأ الشريط حتى فوجئنا بشجن آخر إذ أهدى لطيف الفيلم لروح رفيقة عمره لاريسا عبد الحميد. لكننا رغم وطأة هذا الموت المزدوج سرعان ما دخلنا في عالم لطيف الذي تمتزج فيه الدمعة بالضحكة.
ميزة فيلم «الطريق» أنه أومأ إلى الآلام التي تعصف بنا من دون أن ينغمس فيها، وقد اختار مرحلة ثمانينيات القرن الماضي في إشارة لا تخفى على المشاهد اللبيب.
بعيداً عن المباشرة يوصل لنا «الطريق» بلغة الفن الراقية العديد من الرسائل ومنها رسالة لذوي الشأن كي يدركوا أن الإنسان السوري الذي يصفونه بالفشل إنما هو عبقري بالفعل، لكنه بحاجة لروح إيجابية تساعده على صقل عبقريته وإبرازها.
تحية لأخي لطيف ولكل من شاركوا بهذا العمل العميق الممتع.