توطين الدين
| د. نبيل طعمة
غدت الحاجة ماسة جداً وضرورة إنسانية، تطالب بها المجتمعات العالمية قبل سياساتها، من حيث ما وصل إليه العالم العربي وديانته الأولى الإسلامية والتشويه لصور إنسانها وصورتها من خلال اعتناق مريديه لتفاسير التشدد التي تدعو إلى الجهاد عند الطلب لنصرة أفكاره وإخوته، يتوافدون إليه أينما كانوا، وأيضاً عدم قبوله للاندماج ضمن المجتمعات الأخرى، وإن على الآخر قبوله وتقبله كما هو، بل أكثر من ذلك مطالبته للآخر بأن يكون على شاكلته، وإلا فإنه كافر، وإن عليه قتاله أو دفعه للجزية، أو طرده من أرضه ووطنه.
الإشكال الكبير الذي وقع به المسلم هو استمرار تمسكه بشمولية الدين وعدم استيعابه لفكرة أنه ينبغي توطينه في داخله، كي يفيض عليه ألقاً وتألقاً، هذه الشمولية التي لم يستطع التخلص منها، حصرته ضمن فكرتها العامة، ولم تأخذ به إلى خصوصيته، التنوع مطلب إنساني وحياتي، وإلا لكانت البشرية على صورة واحدة، ولون واحد، ودين واحد، ومذهب واحد، وأيضاً لم ينتبه إلى ما جرى مع الديانات الأخرى، ومثلنا المسيحية التي تعتبر الديانة الأولى في العالم، إلا أنها ورغم شمولية الفكرة، فقد استطاعت من خلال التطوير العملي للمنهج الإنساني، أن توطن تعاليمها ضمن الفرد، وتدار من القائمين عليها بحكمة ودقة عالية، فتحولت إلى جوهر طور المظهر، وأضفى عليه مسحة قبول الآخر والتعاون والتفاعل معه، فكان من ذلك ظهور حداثة المرء وتحديثه الدائم، ومعها أنتج، وغدا الإنتاج للبشرية جمعاء أهم وسائل حياته، مع حفاظه على فكر دينه الذي استوطنه في الجوهر، وعمل معه للتطوير والتقدم، وبمصارحة أكبر، لقد تحول الدين ضمن معتنقي الديانات الأخرى إلى حالة ثقافية، وبأدق من ذلك إلى تراث جميل وإيمان موضوعي، لا يستخدمه معتنقوه إلا في حالات خاصة، وضمن إحياء الطقوس الإيجابية والموضوعية والاحتفالات الرسمية، ومعه ومن خلال عدم القدرة على الاندماج مع المجتمعات الأخرى، أصبح من الطبيعي اتهام المسلم، أي مسلم من دون تمييز أو فرز، بالتطرف لمجرد أن يعرف بأنه مسلم، وبدأت أصابع الاتهام تشير إليه من كل حدب وصوب، وأكثر من ذلك، بأنه المسؤول عن استفاقة التطرف لدى الأديان الأخرى، معضلة كبرى أخذت تستشري بين البشرية، وهناك من أخذ يدعو للتخلص من المسلمين، والسؤال الآن: كيف نوقف ذلك، وكيف نعيد لهذه الشخصية حضورها وتشاركيتها مع الأمم الأخرى، والتفاعل مع دياناتها.
المفسر الإسلامي غرز في عقول المسلمين أن الجنة فقط للمسلمين، وأن النار للكافرين، وأن لغة أهل الجنة العربية، لن يدخلها الصيني، ولا الهندي، ولا المسيحي، ولا اليهودي، ولا أي معتقد، كما أن تعاليمه للمسلمين، أن جميع من دونهم كفَرة، فهل يعقل ذلك، ونحن في عصر الإبداع العلمي، نستخدم كل ما أنتجه الآخر الذي صنع الطائرة والسيارة والسفن والورق والقلم، وحتى الحصول على شهادات عليا في اللغة الأم العربية، وكل ما تحتاجه الأمم، من دون تفكير في دين أو تكفير معتبراً ما يقدمه خدمة للبشرية، وما دام أنه قادر على الإبداع والتقدم يفعل ذلك.
إن اجتراحات النظام العربي، لم تؤدِ حتى اللحظة لظهور أي عملية تطوير فكري حقيقي، على الرغم من امتلائه بالأيديولوجيات القادمة إليه من كل حدب وصوب، وأيضاً رغم مروره بعمليات تجريبية مثل محاولات اعتناقه الشيوعية والاشتراكية والرأسمالية، ومحاولات سيطرة الدولة الدينية على الدولة العربية، والعكس صحيح، وذلك كان ومازال بسبب اختلاف نظم حكمه بين ملكي وأميري وسلطني ورئاسي وبرلماني، وبقاء القاسم المشترك فيما بينهم الدين الإسلامي وتفاسيره، والإصرار على بقاء مصادر التشريع الأولى والأخيرة مصادر الإسلام ومذاهبه وطوائفه، ولذلك لم يمتلك القدرة على اتباع أو إنتاج فكر اجتماعي نوعي، يدير به الشؤون العامة والخاصة، ولم يقدر أيضاً على الترفع عن فلسفة الأنا، حيث آمن بأنا الكل، وحارب الفلسفة جوهر كل شيء، ومنه كان أن عين كل واحد متجهة إلى الآخر، وعليه تولدت صعوبات جمة، أبعدت النظام العربي عن قدرة الانخراط في عملية الإنتاج العالمي ومواكبة العلوم، أو الإسهام في إبداعاتها، والعالم أجمع يتجه إلى الاستناد إلى نظرية تقديم الرفاهية لمجتمعاته، بالبحث الاجتماعي والعلمي، إلا العالم العربي الذي أصبح عوالم ولغات وإثنيات، ورغم ذلك، نراه يتمسك أكثر فأكثر بالدين وعمليات التدين.
لقد حارب العربي المسلم دائماً بماضيه وفتوحاته، من خلال ثقافة مفسريه، مسألتي الصوفية والفلسفة، لكون الأولى دعت إلى وحدة الوجود، ووحدة الشهود، والثانية أسست لثقافة الشك بغاية البحث من أجل الوصول إلى اليقين، والاثنتان دعتا إلى توطين الدين في الجوهر الإنساني، وجسدتا مفهوم المركز الكوني والاشتغال أولاً للحياة الإنسانية، وثانياً تطويرها مادياً وأخلاقياً. وفي ما يتعلق بالتصوف، فلم يصل المفسر الإسلامي لفهمه على أنه حالة وسطية، أخذت بها جميع الديانات الوضعية والثقافية والسماوية، وأنه حالة تأمل، تحمل في غايتها الوصول إلى شيء وفهمه، ومن ثم منحه قيمة واسماً، ومن خلاله تتهذب الروح وتنتقي، وإن ما يجري الآن من دعوات للتصوف لا تمتلك أي عملية من تلك العمليات التي تمتع بها المتصوفون الحقيقيون والواقعيون، فليس الخلاص بالتقشف وهزّ الرؤوس، وليس التصوف لغة تخص الدراويش، إنما حالة تأمل كبرى، تحمل في طياتها تطوير الإنسان روحياً ومادياً، وتتشابه كثيراً مع الفلسفة التي شكلت جوهر العلوم، ما أدى إلى استنباط محاور العلم التقني والاجتماعي والأدبي.
مما تقدم أدعو جميع المشتغلين على مرتكزات الدين الإسلامي وتفاسيره، ومعهم الباحثون في صنوف العلوم والفلسفة والثقافة، للإسراع في تحليل مفهوم توطين الدين، وإذا كنا ننادي بفصل الدين عن الدولة، فإنني أعتقد أن أكثر ما يناسب عالمنا الإسلامي الآن، هو هذه الفكرة التي غايتها الأولى والأخيرة إعادة إحياء الشخصية العربية الإسلامية، من أجل إسهامها في حركة الوجود العالمي وتطويره.