الجار أولى بالجار … الجيرة في تراثنا الشعبيّ… جارك القريب ولا أخوك البعيد
| منير كيال
يلحظ من يتجوّل بحارات مدينة دمشق، تعرّج هذه الحارات، وتداخل دورها بل تراكب هذه الدور، كما يلحظ عدم وجود باب لأي من هذه الدور مقابل باب بيت آخر من الحارة، وإن المرء إذا دخل إلى أيّ من دور الحارة فلابدّ أن يمر بدهليز أو ممر يمتد بضعة أمتار، لينعطف نحو باحة الدار «أرض الديار».
وهذه أمور ترتبط بما كانت عليه دمشق من تحابّ ومراعاة لحرمة الآخرين فالدور المتراكبة والمتداخلة، إنما هي شكل من أشكال التآلف والتوادّ، ذلك أنه لم يكن هناك إشكال أو خلاف بين الجار وجاره إذا قام هذا الجار بركوب حائط جاره لبناء غرفة أو مخدع، ولا غضاضة بوجود فتحة أو طاقة بالطبلة، الجدار الفاصلة بين دار هذا الجار ودار جواره والجدير بالذكر أن مثل هذه الفتحة كانت غالباً ما تتخذ لتبادل سكب الطعام بين الجوار، بل تبادل أطراف الحديث بين الجارة وجارتها.
ويتناقل أهل دمشق قصة مفادها، أنّ أحد الجيران رغب في أن يزوّج ابنه، ولم يكن لديه غرفة فائضة يسكن ابنه المرشح للزواج، فطلب إلى جاره أن يسمح له ركوب طبلة بيت جاره، لبناء الغرفة، فما كان من هذا إلا أن قال لجاره إن أكتافنا تحمل غرفة لزواج ابنك، إذا لم تحملها طبلة بيتنا، لأن ابنك هو ابننا وسعادته تسعدنا.
وفي حقيقة الأمر أن هذه الروح في المعاملة بين الجوار، إنما هي مستمدة من التعاليم الإسلامية التي حرصت على حسن التعامل بين الجوار، وحسن التصرف معهم بل مساعدتهم، أكان ذلك بين المسلمين، أم بين المسلمين وأهل الكتاب، وقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: «والجار ذي القربى والجار الجنب».
وقد ورد عن النبي (ص) قوله:
ما زال جبريل يوصيني بالجار حتّى ظننت أنه سيورثه، وكان صلى الله عليه وسلم أسوة في بيان كيفية التعامل مع الجوار، فيروى أنه كان يسكن بجوار النبي (ص) جار يهودي فلما مرض هذا الجار، عاده النبي ليطمئن عليه، فخير الناس أنفعهم لجاره.
وقد رسمت لنا أمثالنا الشعبية الأطر التي ينبغي أن تكون بين الجوار، فالعلاقة بين الجوار، امتداد طبيعي لروابط الأسرة، وقد تفوقها في بعض الأحوال وفي ذلك المثل الشعبي.
جارك القريب.. ولا أخوك البعيد.
وكذلك قولهم: الله أوصى بالجار، وقولهم: الجار أولى بالشفعة ومن أمثال العرب:
ربّ بعيد أقرب من بعيد.
أخوك من واساك بنشب، لا من واساك بنسب.
وقد فرضت العلاقات الاجتماعية على الجوار، نوعاً من الارتباط والتكامل، تولّد عن المشاركة التي فرضتها الجيرة، فالجار أقرب لجاره وهو يشاركه أفراحه ويسعفه بأتراحه، حتى قيل: ربّك أعلم بك.. وبجارك.
فالجار والحال هذه يتحمّل عن جاره جانباً من مسؤولية العلاقات الاجتماعية بالمناسبات التي تستدعي ذلك، فهو حريص على عرض جاره وشرفه.
وكان بالدور التي يقطن الواحدة منها عدد من الجيران، أن يكون لكل جارة دور للقيام بأعمال تنظيف باحة «أرض ديار» ذلك البيت من كنس ومسح وشطف، وصادف أن كانت إحدى الجارات تقوم بتنظيف أرض الديار، وأن قدم أحد القاطنين يريد الدخول إلى سكناه، فعمدت تلك الجارة إلى التقبع بروبها «فستانها» لتغطية شعرها فأدى ذلك إلى كشف ساقيها، وهي تقول: تفضل جارنا… إن شاء الله متل أخي.
ولعل هذا ما يبرر قول المثل الشعبي:
جارك متل أخاك، إن ما شاف وجهك شاف قفاك.
ويحضرني في هذا المجال قول الشاعر:
وأغضّ طرفي ما بدت لي جارتي
حتى يواري جارتي مأواها
وإذا كانت العلاقة بين الرجال من الجوار، قائمة على التعاون والإيثار والودّ والنخوة.. فإن العلاقة بين الجارات من النساء، كانت على غير ذلك، لأنها كانت تعتمد على الوقوف على كل كبيرة وصغيرة من حياة كل منهن، وقد شمل ذلك الرغبة بالاطلاع على كل ما ترتديه الجارة وما تتزين به لزوجها، وما هي عليه من حماتها أو بنات حميها، بل سلفتها وضرتها.. وبالتالي ما هي عليه الجارة من علائمة الرّفاهية أو الترف، وفي ذلك قول المثل الشعبي:
لو كانت إسوارتي أوقية (200 غرام) مالي عن جارتي غنية (مستغنية).
حتى كان اجتماع الجارة بجارتها من الأمور التي لا غنى عنها، بل لابد منها، حتى إن منهن من كانت تعدّ قهوتها وتأخذها لعند الجارة لتناولها خلال ما يجري بينهما من أحاديث وما تتسقط كل منهما من أخبار عن الأخريات، ولا يخلو ذلك من الخوض بخصائص الأسرة ودخائلها التي لا يجوز أن تشاع بين الآخرين.. لما قد يشوب ذلك من نقد أو تجريح أو دسّ وافتراء، ومن ثم التعقيب على كل صغيرة وكبيرة من حياة الجارات الأخريات، وقد صور لنا المثل الشعبي ذلك بقوله:
لولاك يا جارتي لطقت مرارتي.
يللي ما بيغارر من جارته… بتطق مرارته
وكان استرسال الجارات بتسقط أخبار الأخريات وتناول حياتهن بالقيل والقال والتأويل مما يوقد نار الحسد والغيرة، وقد ينجم عن ذلك الشحناء وسوء الظن وقد نجم عن ذلك انتشار عدد من الأمثال الشعبية التي تتناول الدعوة إلى الحد من التعامل بين الجارات ومن ذلك:
فوتة الجار لعند الجار… أولها مذلّة وآخرها معيار
يا جاري أنت بحالك وأنا بحالي
إن شفت جارة سبّت جارتها.. مالك عندها سِت «سيدة» الجيران.
وبالتالي فإن تلك الشحناء بين الجوار، قد ينجم عنها ما لا تحمد عقباه، وتصل العلاقة بين الجيران إلى طريق مسدود، وخاصة إذا وصل الأمر إلى الرجال… وقد نقل لنا المثل الشعبي ذلك بقوله:
إن جار عليك جارك حوّل باب دارك.
أما إذا تمادى الجار في تعامله العنيد مع جيرانه، ولم يرعو ولم يعد إلى ما هم عليه الجيران من توادّ وتحابّ وإيثار ينطبق عليه المثل القائل: كوم حجار.. ولا هالجار.